طلّة مع جواب سؤال علمي نقتبسه من “الزّاوية الفقهيّة العقائديّة” المـثَـبَّـتة على حائط الجماعة ::
حيث جاء في سؤال السّائل ما يلي:





السلام عليكم و رحمة الله ِ وبركاته .. وصلني سؤال من أحد الأشخاص نَصه هكذا: هل نار ُ جهنم تفنى مع الموجودات؟ واذا كانت تفنى فلماذا يخلقها -الله تعالى- ولا يستخدمها وهذا يكون عبثًا! .. جل المولى عن ذلك؛ أي من العجب أن تكون فقط للترهيب!
ويستند -السائل- للآية في سورة الرحمن (كلُّ من عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربّك ذُو الجلالِ والإكرامِ) [27:26].
و كما قرأت في الميزان في تفسير القرآن: علهيا عائدة للأرض و كل ما على الأرض من ذوات الأرواح لا علاقة لغير ما على الأرض. لكن الجواب بالنسبة له -للسائل- لم يكن شافيًا .. فنرجو التوضيح ببيانكم الساحر اذا أمكن ذلك.
واستنَدَ -السائل- أيضا إلى آيةٍ في سورة القصص (ولا تدعُ مع اللهِ إلهاً آخرَ لا إله إلا هو كلُّ شىءٍ هالكٌ إلا وجههُ له الحُكمُ وإليهِ تُرجَعُون) [88].




و أيضًا نرجو توضيحكم لمعنى الهلاك. وهل كلمة يهلك تنطبق على الجمادات؟ أم فقط على ذوات الأرواح؟ وهل إذا قلنا أن ذلك شيءٌ مستهلك أي قصدنا جمادًا معينًا هل ذلك استعارة للكلمة أم تكون صحيحة، لأن الهلاك جار ٍ على كل موجود بمعنى الفناء أو الإبلاء ..
وهل وجه الله يقصد بهِ صفاته أم مخلوقاته التي تدلل على وجوده؟ ومخلوقاته يقصد بها بديع خلقه كما يقول الحسن بن هانئ (أبو نواس) عليه الرحمة :
تأمل ْ في نبات ِ الأرض ِ و انظر .. إلى آثار ِ ما صنع َ المليك
عيون ٌ مِن لجين ٍ شاخصات ٍ .. و أزهار ٌ كما الذهب السبيك
على قضب ِ الزبرجد ِ شاهدات ٌ .. بــأن َ الله َ ليسَ له ُ شريك







وكيف تبقى الصفات و كل شيء ٍ فانٍ اذا كان المعنى صفاته كما ذكر العلامة الطباطبائي عليه الرحمة؟ واذا أمكن التوضيح أكثر لمعنى الصفات.
نعود لمحور الموضوع هو نار ُ جهنم، السائل يقول: اذا كانت نار جهنم تفنى فلماذا يخلقها الله ولم يستخدمها؟ فهذا يكون عبثاً جل المولى و تعالى عن ذلك، فهل للترهيب فقط؟
هذا سؤال من سألني والتفاصيل بالسؤال وضعتها أنا للإستزادة (أعوذ بالله من كلمة أنا).








أضيف سؤالاً في النهاية: إذا كانت أروحنا هي التي تبقى فهل الجنة شيء جوهري أم مادي؟ هل الروح تتعامل مع الماديات؟ وفي جهنم يكون التعامل مادي أم روحي جوهري؟ وفي رواوية ما معناها يقول: خُلِقت الجنة من رحمة الله و النار من غضب الله. فهنا نقول مالمقصود من رحمة الله و غضب الله؟
قد تكون الأسئلة غريبة أو غير ملتفَت لها نوعًا ما ولا يكون لها ذلك النفع القوي في حياتنا، لكن هذا ما وصلني و فتح أبوابًا من الأسئلة. نعتذر على الإطالة عليكم .. بالتوفيق جميعا نسألكم الدعاء





رد سماحة السّيد أمين السعيدي حفظه الله:




بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،





بالنّسبة للسّؤال المطروح فإنَّ جوابه هو أنَّ نار جهنّم يمكن أن نتصوّرها بنحوين هما:




* النّحو الأوّل:-


أنّها (وجود مجرّد) يتشكّل بحسب العمل السّيّئ الّذي يقترفه العبد؛ فهذه تفنى لأنّها تكون بمقدار الذّنب وعِظّمه وكِبَره، فكلّما كان كبيراً كان عمر تلك النّار طويلاً، وهكذا، وهذه يمكن لنا أن نسمّيها بـ(نار الأعمال)، فهي تابعة للأعمال وتتشكّل بصورها في الآخرة.





*النّحو الثّاني:-


أنّها نار ملتهبة محرقة موْقَدة في صورة خاصّة كالجنّة؛ وهذه لا تفنى أبداً بل هي مشتعلة ووظيفتها التّرهيب والتّرغيب وكذا المجازاة على الأفعال السّيّئة، وهذه يمكن لنا أن نسمّيها بـ(الجحيم المستقل أو جهنّم المستقلّة).


لكن هذا لا يعني أنّ النّحو الأوّل ليست له صورة دائميّة أيضاً، كلا، فقد يكون هنالك عمل سيّئ يرتكبه العبد فتكون ناره داميّة الوجود، تماماً كالشّرك بالله تعالى، فالشّرك عذابه أبدي، ومثله كل عمل عبّر عنه القرآن بأنَّ أصحابه يدخلون النّار {خالدِينَ فيها أَبَدا}.



وبهذا قد يجتمع كلا الأمرين في شخص مذنب، بحيث يعذَّب بكلتا النّارين، نار الأعمال وجهنّم المخلوقة في صورة خاصّة كالجنّة.
هذان نحوان من تصوّر النّار يمكن لنا أن نستفيده من الآيات والرّوايات الكثيرة المتحدّثة عن هذا الوجود المهيب أعاذنا الله وإياكم منها وأعتقَ رقابنا عنها.






لكن يظهر أنَّ السّائل يستفسر عن خلق النّار قبل أن يقوم الحساب، بمعنى هل هي مخلوقة الآن ومنذُ زمن طويل؟ وإن كانت مخلوقة منذُ زمنٍ طويل فما فائدة وجودها؟ وهل وجودها الحال فقط يراد به التّرهيب؟ فيوم الحساب لم يأتِ بعدُ، والنّار لا يستعمله الله تعالى إلا بعد الحساب، وقبل الحساب -أي قبل يوم القيامة- سوف يفنى كل شيء، لأنَّ الآية تقول {كُلُّ مَن عليها فان}، وبالتّالي ما قيمة وجود هذه النّار؟ أليس من العبث إيجادها ثمَّ إفناؤها مثلها مثل العباد؟





هذا ما يظهر من سؤال السّائل، بما يَجعل منه سؤالاً عميقاً يَتضمّن التفاتة دقيقة، فإن كان هذا هو مراد السّائل فالجواب:



لو فرضنا أنَّ الغاية من إيجاد النّار هو التّرهيب في ظلّ القول بأنّها تفنى مثلها مثل الخلق، فهذه الغاية أهمّيّتها لا يمكن أن يستهان بها؛ لأنَّه عندما تقول لشخص أنَّ الشّيء الفلاني موجود الآن وقابل للاستعمال ليس كما لو قلت له أنّه سيوجَد بعد فترة ويستعمَل، وإن كانت قدرة الله لا يحدّها حد ويقدر على أن يخلق النّار في أي لحظة شاء.
لكن هذا مجرّد فرض نريد من خلاله بيان أنَّ غاية التّرهيب لا يمكن أن يستهان بها، والصّحيح أنَّ النّار لا تفنى؛ ذلك لعدّة أمور يمكن لنا أن نذكر منها ما يلي:





أوّلاً:-
لأنَّ الفناء المذكور في الآية يراد به فناء من على الأرض لا فناء من هو موجود في ذلك العالم، بدليل أنّ الآية تقول {كلُّ من عليها}، أي عموم من على الأرض، وهذا يدعمه الأمر الثّاني التّالي.





ثانياً:-
لو كان كل شيء يفنى بما في ذلك ما هو في السّماوات وتلك العوالم لكان يجب أن تفنى الأرواح أيضاً، مع أنّ الأرواح لا تفنى، فهي موجودات مجرّدة مستديمة الوجود، وعليها يقع العقاب والعذاب، والنّعيم والتّكريم.





ثالثاً:-
وردت لدينا روايات تؤكِّد على أنَّ الأنبياء لا يشملهم هذا الإفناء.

من هنا نفهم أنَّ ذيل الآية المستثني لوجه الله تعالى في قولها {ويبقى وجهُ ربِّك ذُو الجلالِ والإكرامِ} يُقصد فيه بوجه ربّك هو جهة الله تعالى، وهذه الجهة تشير بصورة رمزيّة للأعلى ولعالم المجرّدات؛ أي إلى ما كان يحيى في جهة الله تعالى من الجنّة والنّار والأرواح وما شاكل؛ وهذا يمكن لنا أن نعتبره أمراً رابعاً.
علماً أنَّه ينبغي التّركيز على أنّ النّار (موجود مجرّد)، لا أنّها كنار الدّنيا وموجودات هذا العالَم الّتي ليس لها أن تحيى إلى بالاختلاط مع المادّة، فعالم الآخرة عالم تجرّد، وموجوداته موجودات مجرّدة، تماماً كما أنَّ الجنّة موجود مجرّد له صفات خاصّة من درجات ومقامات ونِعَم متغايرة؛ لذا نجد أنَّ الأخبار تؤكِّد على أنَّ الجنّة ليس في طعامها فضلات ولا جماع بين الأزواج وأنَّ لذائذها لا تفنى في الذّات، وهذا ينطبق مع التّجرّد، فالأمر مثله بالنّسبة لجهنّم.






وعليه؛ فإنَّ العموم المذكور في الآية بأداة (كل) لا يعني عدم وجود مستثنيات، وهذه المستثنيات نفهمها تارة من نفس الاستثناء الموجود في ذيل الآية لوجهه تعالى، وتارة من أدلّة أخرى خارجيّة.
بهذا يصح الرّجوع إلى القول بأنَّ النّار إذن ما فائدة وجودها الآن ومنذُ زمن بعيد؟ فهل الغاية هي التّرهيب فقط؟
الجواب: مع أخذ أهمّيّة التّرهيب بعين الاعتبار كما أشرنا نقول أيضاً كلا، ليس التّرهيب وحده هو الغاية من وجود النّار، فهنالك من يعجّل الله تعالى له العذاب بهذه النّار حتّى قبل مجيء يوم القيامة؛ بدليل أنَّ الرّوايات الكثيرة تذكر بأنّ المؤمن إذا مات فقبره يكون منيراً مزهراً فيكون روضة من رياض الجّنة، والعاصي يكون مكفهرّاً مظلماً فيكون حفرة من حفر النّار، وهذه النّار تتلاءم مع عالم البرزخ الّذي هو عالم له صفات مماثلة لبعض صفات هذا العالم وصفات مماثلة لبعض صفات ذلك العالم، وهذا ما يسمّى (بعالم المثال) في قِبال عالم المادّة الدّنيوي وعالم التّجرّد الأخروي.
أضف إليه أنَّ هنالك أقوام من الجن والإنس سلف أن ماتوا، وقد وافاهم حسابهم، وإن كان ليوم القيامة وقفة جماعيّة، وهذا ما يتّضح فهمه بصورة أكبر عند مطالعة حادثة الإسراء والمعراج، حيث رأى نبيّنا العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم في تلك الحادثة الكثير من الأمور الغيبيّة المتّصلة بهذا الأمر، حيث رأى نساءً معلّقات من شعورهنّ وأثدائهن، ورأى من يرفع ويقرّب به إلى النّار، ورأى من يخمش وجهه بأظافره بذنب الغِيبة وارتكاب الفاحشة وغير ذلك ممّا يذكر خبر الإسراء العظيم، وهذا يعني أنَّ النّار وجودها ليس وجوداً ترهيبيّاً فحسب، بل له فعليّة وفاعليّة؛ أنَّ وجودها له استعمال حقيقي في ظل وجودها الحقيقي.






ثمَّ إنّه قد يقع الإشكال بأنَّ هنالك روايات تذكر بأنَّ كل شيء عند قيام السّاعة يفنى بالفعل، فيعود العالم لما كان عليه، ولا يبقى غير الله تعالى، لدرجة أنّه حتّى عزرائيل قابض الأرواح يُأمر بقدرة الله عزّوجل بأن ينزع روح ذاته، فيفنى، لكن كما قلنا الفناء المراد في الآية وإن شمل أهل السّماء أيضاً، وكلّ شيء، فإنّه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذكرناه مِن المقصود بهذا الفناء.
هذا ولو فرضنا أنَّ النّار أيضاً تفنى مع الموجودات أيضاً، فأيضاً لن يكون وجودها وجوداً ترهيبيّاً؛ ذلك للأسباب الّتي ذكرناها من وجود استعمال حقيقي لهذه النّار في فترة ما قبل القيامة، وهذا يعني أنَّ النّار وإن فنيت بعد وجوده، ثمَّ أعيد وجودها فهذا لا مانع منه، فليكن كذلك، بحيث تكون كيرها من الموجودات يفنى بعد إيجاده ثمَّ يعاد؛ إذن لا يوجد حالة من العبث والإشكال المذكور فاسد تمَّ ردّه.
وعلى أيٍّ ذكر الفلاسفة في تحليلهم العقلي تجاه المعاد أنَّ العدم لا يمكن أن يتوسّط بين وجودَين، وهذا بحث دقيق لا حاجة لبيانه هنا، فما ذكرناه في للجواب على الاستفسار المطروح.
أمّا بالنّسبة للهلاك فقد ذكر االمفسّرون أنّ المراد به هو الموت والخروج من هذا العالم، ممّا يعني أنّ الهلاك يشمل حتّى الجمادات، واستعمال الهلاك في الجمادات استعمال حقيقي وليس استعارة، ومنه تقول تم استهلاك الوقود، واستُهلِك الماء، ولا تكن مبذِّراً مستهلِكاً للنِّعمة، سواء كانت النّعمة مادّة أم غير مادّة كالصّحّة وبقيّة المعاني المجرّدة.
وأمّا المقصود من أنّ الجنّة خلِقت من رحمة الله والنّار من غضب الله، فالمراد من هذه الرّحمة هي الأثر والمردود العائد عن رضا الرّحمن سبحانه بمجازاته العبد بالحسنى على طاعته له واهتمامه بتشريعاته ومجاهدته في سبيله وعنايته بأمانته الّتي هي ذاته المودعة عنده في الدّنيا وما استخلفه عليه.




والمراد من هذا الغضب هو الأثر والمردود النّاتج عن سخط الجبّار سبحانه بمجازاته العبد بسوء العاقبة وبالنّكال والعقاب على معصيته واستهتاره وإسرافه على نفسه وعدوانه وخذلانه وتضييعه لتشريعاته وتثاقله عن الهِداية وخيانته للأمانة المودعة عنده من جسد وغيره ممّا استخلفه الله تعالى عليه فقصّر تجاه حفظه ورعايته.
وهذا يعني أنَّ الرّحمة والغضب استعيرا للأثر والمردود، وإلا فإنَّ الله تبارك اسمه وتعالت صفاته وجوده وجودٌ مجرّد لا وصفاته هي عين ذاته، فهي غير قابل للانفصال عنه لتكون صفة الغضب منه ناراً منفصلة يعاقَب فيها العبد، وصفة الرّحمة منه جنّةً مستقلّة يعيش فيها العبد.
والأسئلة ليست غريبة وإنّما تدل على انتباه وتأمّل وعمق، كما أنَّ نفعها في حياتنا كبير، ولعلَّ الجواب فيه الدّليل على أنّ نفعها كبير، خصوصاً وأنّها تثبّت الإيمان وتحرّك الوجدان وتظهر عظمة الله تعالى، فهذه فوائد كبرى آثارها ترتبط بالعقيدة، ولا شيء أقدس من العقيدة، فالعقيدة أقدس من الفقه، فهي دعامة الفقه والأساس له وبها نؤمن بالفقه ونعمل، بل لو كانت فائدتها قليلة وكانت منفعتها ضئيلة؛ لما اهتمَّ الله تعالى بهذه القضيّة وأودعها في آياته وقرآنه، وهو الحكيم العليم.





بالتّوفيق، نسألكم الدّعاء
أمين السّعيـدي-الخِـط
26شعبان1432هـ