بِسْم الْلَّه الْرَّحْمَن الْرَّحِيْم
مِن الْقَصَص الْقُرْآنِيَّة الَّتِي تَتَحَدَّث عَن جَوَانِب مُهِمَّة مِن حَيَاة أَنْبِيَاء
الْلَّه تَعَالَى هِي قِصَّة نَبِي الْلَّه يُوَسُف(ع) وَمَا جَرَى عَلَيْه مِن أَحْوَال مُخْتَلِفَة عِبَر تِلْك الْقِصَّة الَّتِي ذَكَرَهَا الْلَّه تَعَالَى فِي سُوْرَة يُوَسُف كَامِلَة وَبِأُسْلُوب يَأْخُذ بِمَجَامِع الْقُلُوْب وَيَبْهَر الْنُّفُوْس.
وَنَحْن لَا نُرِيْد ان نَتَحَّدَث عَن هَذِه الْقِصَّة مِن خِلَال الْسَّرْد الْتَّارِيْخِي لِمَرَاحِل هَذِه الْقِصَّة وَإِنَّمَا نُرِيْد ان نُسَلِّط الْضَّوْء عَلَى بَعْض الِالْتِفَاتَات الَّتِي رُبَّمَا لَا يَعْرِفُهَا الْكَثِيْرُوْن حَتَّى نَسْتَفِيْد مِنْهَا الْعِبْرَة وَالْمَوْعِظَة الْتَّرْبَوِيَّة الْحَقِيقِيَّة فَان الْلَّه تَعَالَى حِيْنَمَا يُذْكَر لَنَا قِصَّة نَبِي مَن الْأَنْبِيَاء وَيُسَجِّلَهَا فِي الْقِرَان الْعَزِيْز إِنَّمَا يُرِيْد مِن ذَلِك أَن نَنْتَفِع بِهَا فِي الْعِبْرَة وَالْمَوْعِظَة.
وَهْنَا سَنُحَاوِل أَن نُرّكِز فِي حَدِيْثِنَا عَلَى جُمْلَة مِن الْأُمُور أَهَمِّهَا:
أَوَّلَا: خُطُوْرَة الْحَسَد وَخُصُوْصا بَيْن الْإِخْوَة
أَن
يُوَسُف وَأَخُوْه بَنْيَامِين كَانَا مِن أُم وَاحِدَة و بَاقِي الْإِخْوَة مِن أَم أُخْرَى، وَاخْتِلَاف الْأُمَّهَات رُبَّمَا يَكُوْن دَاعِي لِلْحُسَّد فِي الْنُّفُوْس بَيْن الْإِخْوَة خُصُوْصا إِذَا كَان احَد الْإِخْوَة أَكْثَر مَحْبُوبِيّة لَدَى الْأَب سَوَاء كَان ذَلِك لِصِغَرِه وَضَعَّفَه، أَو لِطُهْرِه وَنَظَافَتِه، أَو لِذَكَائِه ونُبوغِه وَمِن هُنَا قَال تَعَالَى:
((لَقَد كَان فِي يُوَسُف وَإِخْوَتِه آَيَات لِّلْسَّائِلِيْن {يُوَسُف/7} إِذ قَالُوْا لَيُوْسُف وَأَخُوْه أَحَب إِلَى أَبِيْنَا مِنَّا وَنَحْن عُصْبَة إِن أَبَانَا لَفِي ضَلَال مُّبِيْن {يُوَسُف/8} ))
الْقِصَّة تَبَيَّن فَدَاحَة الْحَسَد وَخُطُوْرَتِه وَاعْتِبَارُه دَافِعَا لَأَبْشَع الْجَرَائِم
وَالْحَسَد كَمَا عَرَفُوْه هُو تَمَنِّي زَوَال الْنِّعْمَة عَن الْمَحْسُود وَإِن لَم يَصِر لِلْحَاسِد مِثْلَهَا وَمَن اتَّسَع حَالِات الْحَسَد حِيْن يَتَّمَنِّي زَوَال الْنِّعْمَة عَن الْغَيْر سَوَاء تَنْتَقِل أَلَيْه او لَا تَنْتَقِل إِلَيْه بُغْضَا لِذَلِك الْشَّخْص
وَكَان حَال اخْوَة
يُوَسُف مَعَه هُو بّاطْوَار مِنْهَا :
1- الْعَدُوَاة وَالْبَغْضَاء وَالْحِقْد .
2- حَب الرِّئَاسَة وَطَلَب الْجَاه لِنَفْسِه .
3- ظُهُوْر الْفَضْل وَالْنِّعْمَة عَلَى الْمَحْسُود .
ثَانِيا: الْتَّذَرُّع بِالْتَّوْبَة فِي ارْتِكَاب الْذُّنُوب
وَمَن الْعِبَر فِي
قِصَّة إِخْوَة يُوَسُف طَرِيْقَة إِغْفَالِهِم لِلْصَّوَاب بِشَأْن أَخِيْهِم يُوَسُف، حَيْث حَدِّثُوا أَنْفُسِهِم بِالْتَّوْبَة كَمُبَرَّر لِان يَرْتَكِبُوْا الْمَعْصِيَة عَلَى مَا يَبْدُو مِن قَوْلِه تَعَالَى: ((اقْتُلُوا يُوَسُف أَو اطْرَحُوْه أَرْضا يَخْل لَكُم وَجْه أَبِيْكُم وَتَكُوْنُوْا مِن بَعْدِه قَوْما صَالِحِيِن {يُوَسُف/9} ))
نَعَم هَذَا كَان مُبَرِّرَا لِهَؤُلَاء اقْنِعُوا أَنْفُسَهُم بِه وَمَن خِلَالِه وَارْتَكَبُوْا الْمَعْصِيَة وَهَذَا مَا يَتَذَرَّع بِه كَثِيْر مَن الَّذِيْن يُذْنِبُون، وَهَذَا هُو الَّذِي تَذَرَّع بِه عُمَر بْن سَعْد فِي قَتْل الْحُسَيْن حَيْث قَال مُحَدَّثا نَفْسِه :
فَإِن صَدَقُوْا فِيْمَا يَقُوْلُوْن إِنَّنِي
أَتُوْب إِلَى الْرَّحْمَن مِن سَنَتَيْن
وَلَكِن هَذَا مِن وَسَائِل الْشَّيْطَان وَالْنَّفْس الْإِمَارَة وَيُمْكِن أَن ندْحض قَوْلِهِم هَذَا بِبَسَاطَة وَبِعِدَّة أُمُوْر مِنْهَا:
1: أَنَّه لَا ضَمَان لِبَقَائِهُم أَحْيَاء إِلَى أَن يُصْبِحُوْا قَوْمِا صَالِحِيِن، وَيَتُوْبُوْا عَمَّا يَفْعَلُوْن الْآِن بِيُوْسُف فَمَن الْمُتَوَقَّع عَدَم تَوْفِيْقُهُم لِلْتَّوْبَة إِطْلاقَا
2: غَالِبُا مَا يَكُوْن تَرْك الْذَّنْب قَبْل وُقُوْعِه أَسْهَل مِن الْتَّوْبَة، فَإِن الْقَلْب حِيْن يَكُوْن نُوْرَانِي نَاصِع ذُو صَفَاء سَيَكْسِر صَفَاؤُه بِالْذَّنْب، فَعِنْدَهَا أَصْبَحَت الْتَّوْبَة أَصْعَب
3: ان هَذَا مِن طُرُق الْشَّيْطَان فِي خِدَاع الْإِنْسَان بِوَعْدِه بِالْتَّوْبَة وَالْسَّيْطَرَة
عَلَيْه شَيْئا فَشَيْئا وَهُو أَنْجَح طَرِيْق لِلْشَّيْطَان فِي الْغَلَبَة عَلَى الْفَرْد وَالْتَّمَكُّن مِنْه وَجَعَلَه فِي طَرِيْق الْعِصْيَان وَالِتَسَافِل.
ثَالِثا: عِلْم يَعْقُوْب بِكَذِب إِخْوَة يُوَسُف
أَن الْنَّبِي يَعْقُوْب (ع) كَان يَعْلَم أَن رُؤْيَا يُوَسُف سَتَتَحَقَّق حَقّا وَأَن الْلَّه سَيَجتبِيْه وَيُعَلِّمُه مِن تَأْوِيْل الْأَحَادِيْث، وَيُتِم نِعْمَتَه عَلَيْه وَعَلَى آَل فَهُو يَعْلَم ان يُوَسُف (ع) سَوْف لَن يَمُوْت قَبْل تَحَقُّق تَعْبِيْر الْرُّؤْيَا فَقَد قَال تَعَالَى:
(( إِذ قَال يُوْسُف لِأَبِيْه يَا أَبَت إِنِّي رَأَيْت أَحَد عَشَر كَوْكَبا وَالْشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتُهُم لِي سَاجِدِيْن {يُوَسُف/4} قَال يَا بُنَي لَا تَقْصُص رُؤْيَاك عَلَى إِخْوَتِك فَيَكِيْدُوْا لَك كَيْدا إِن الْشَّيْطَان لِلْإِنْسَان عَدُو مُّبِيْن {يُوَسُف/5} وَكَذَلِك يَجْتَبِيْك رَبُّك وَيُعَلِّمُك مِن تَأْوِيْل الْأَحَادِيْث وَيُتِم نِعْمَتَه عَلَيْك وَعَلَى آَل يَعْقُوْب كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْك مِن قَبْل إِبْرَاهِيْم وَإِسْحَق إِن رَبَّك عَلِيِّم حَكِيْم {يُوَسُف/6} ))
وَالْقُرْان يُحَدِّثُنَا عَن كَلَامِهِم مَع يَعْقُوْب (ع) وَكَيْف أَن جَوَابه لَهُم كَان وَاضِحا فِي انّه يَعْلَم بِحَقِيْقَة الْأَمْر وَإِنَّهُم يَكْذِبُوْن
عَلَيْه فَقَد قَال تَعَالَى: ((قَالُوَا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِق وَتَرَكْنَا يُوَسُف عِنْد مَتَاعِنَا فَأَكَلَه الْذِّئْب وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لِّنَا وَلَو كُنَّا صَادِقِين {يُوَسُف/17} وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيْصِه بِدَم كَذِب قَال بَل سَوَّلَت لَكُم أَنْفُسُكُم أَمْرا فَصَبْر جَمِيْل وَاللَّه الْمُسْتَعَان عَلَى مَا تَصِفُوْن {يُوَسُف/18} ))
وَإِذَا لَاحَظَت مَعِي جَوَاب يَعْقُوْب هُنَا فَإِنَّنَا سَنَجِد عِدَّة أُمَوِر مِنْهَا قَوْلُه:﴿بَل سَوَّلَت لَكُم أَنْفُسُكُم أَمْرَا﴾ وَالتَسُوَيل مِن الْوَسْوَسَة أَي: لَيْس ان الْأَمْر عَلَى مَا تَقُوْلُوْن بَل وَسْوَسَت لَكُم أَنْفُسُكُم فِيْه أَمْرَا، ثُم أَخْبَرَهُم أَنَّه صَابِر عَلَى مَا حَصَل وَسَيَحْصُل وَذَلِك بِقَوْلِه تَعَالَى ﴿فَصَبْر جَمِيْل وَاللَّه الْمُسْتَعَان عَلَى مَا تَصِفُوْن ﴾
وَلِسَان حَالِه يَقُوْل سَأَصْبِر عَلَى مَا أَصَابَنِي وَأْتَزَر تَوَكُّلِي عَلَى رَبِّي، فَكَأَنَّه يَقُوْل: إِنِّي أَعْلَم أَن لَكُم فِي الْأَمْر مَكْرَا وَأَن
يُوَسُف لَم يَأْكُلْه الْذِّئْب، وَسَوْف أُوَاجِه الْأَمْر بِالْصَّبْر، وَأَوْكَل أَمْرِي إِلَى رَبِّي.
و قَد رُوِي ان يَعْقُوْب كَشَف كَذَّبَهُم بِصُوْرَة وَاضِحَة حِيْن نَظَر لِّلْقَمِيْص الَّذِي ادَّعَوْا انَّه بَقِي مِن يُوَسُف بَعْد أَن أَكَلَه الْذِّئْب فَقَد وُجِد أَن قَمِيْص يُوَسُف كَان سَالِمْا لَيْس عَلَيْه أَثَر مِن آَثَار الْذِّئْب وَأَنْيَابُه وَقَد رُوِي عَن الصَّادِق(ع): (( لَمَّا أُوْتِي بِقَمِيْص يُوَسُف إِلَى يَعْقُوْب فَقَال لَهُم: الْلَّهُم لَقَد كَان ذِئْبَا رَقِيْقَا حِيْن لَم يَشُق الْقَمِيْص ))
المفضلات