المكَان يَعجُّ هدُوء ، غَالِبية المَقاعِد مشغُولَة فَراغًا وَ رَذاذ ! لا شَيْء يُوحي بِالحنين هنَا سِوى أنَا وَ عَين يُعَزيها رِمشهَا ، وَ تذَاكر سفَر عتيق لَمْ يَحظى بِـ الهبُوطِ بَعد . أشغِلُ نفسِي بِقَضمِ أمَل العَوْد القرِيب رغْمَ مَوْت لِسَاني ، وَ أذني بِـ سَدادةِ مُسجلةٍ صَغيرة أهدانِي إيَّاها أخِي رِضا ؛ بِمنَاسبَة اكتمَالِ عَامِي الثَّامن عَشَر ؛ الذي يَقضِي بِمُرورِ خمسَة أعوَام منْ أعيادِ ميلادِي ؛ الـ بَقيتُ أحتَفِلُ بِهَا وَحْدِي وَ أطفِئ شَمعتي وَحْدي وَ أغنِّي لِي وَحْدي وَ أتمنَّى دُونَ أنْ يلكِز أحَدٌ خَاصِرتي سَائلاً ما تكُونُ أمنيتي مُذ اغتَرَبت . ذكْرَى ميلادِي الثَّامن عَشر تُؤججُ بحَقلِ صَدرِي شَوقي لأمِّي وَ بُكائِي بِصوتٍ مسمُوع عَلَى غيْرِ عَادتي ، وَ انفِلاق روحِي عَن غُرفتي وَ فَزَعي لأوَّل شعرَةٍ بَيْضاء قدْ نبتَت بِمفْرق شَعري لا عَلاقة لَهَا بِالهَرم ، وَ شعُورِي بِالوحدَة الآن بِالذات! وَ شعُوري بِـ أشيَاءٍ كثيرَة غَادرتني سريعًا وَ لَمْ تعُد .
وَ لأنِّي أحَاولُ إضَاعَة الزمَن فِي الليلَة الأخِيرَة مِن اغتِرَابِي جُزئيًا عَنْ صَديقتي حُسْن وَ شقتنَا وَ كُليًا عَنْ أمِّي وَ منزِلنَا وَ أفرِطُ فِي تدلِيلِ ذاكِرتي الصدئَة لِتُجهِضَ طِفلاً يَنتمي لِوطني وَ مَاءً بِطعمِ وَطني وَ عِطرًا بِريحِ وَطني وَ حضنًا يشبَه دِفء وَطني ؛ قدْ رَسَى بِي الحنين عَلَى مينَاءِ يَاقةٍ بَيضَاء تعُود لِعمرِ السَّابعَة تُبقيني وَ أمِّي فِي صِرَاعٍ صبَاحي هِي تُلبسني وَ أنا أنزَع وَ ينتهِي الأمر بِانتصَارهَا ، ثُمَّ حلَّق بِي عَلَى جناحِ صَباحٍ آخَر فِيه تسلَّمتُ دِرعًا بِسم التفَوق وَ بَاقة زَهرٍ بلونِ النجَاح ، ثُمَّ حَطَّ بِي علَى أرْضٍ بَاردَة تلسَعُ أقدَام المارِقين ؛ الضَّوء فوقَها جَنينٌ تقوَّس عَطشًا فمَا استطَار ارتواءً .. وَ رغمَ أنِّي بَقيتُ أسنِدُ بأعمَاقِي كَونًا مِنَ الشَّوق قَد انْحنى عَلَى ثلاثةِ قبُورٍ تَخصني ؛ إلاَّ أنَّ أحَاديث يُتمٍ قدْ انْحنت قبلِي علَى قبرِ أبِي ! وَ انفرَطَت مِنْ فَمي علَى عَجلٍ أحلامًا صَغيرَة نُحرتْ علَى رَمضَاءِ قبرِك ، وَ صُبَّ علَى رَأسِي صَديدٌ وَ نَار يَوْم احتَضنتُ قبر طِفلتنا الأولَى وَ الوَحيدَة !. ثَلاثة قبُور جَعلتني كَمَن يَهذي مُدانًا بِجُرمٍ لا يَعلمُ سَببًا لَه ! ثَلاثة قبُورٍ جرجرتْ دمعِي الدّفين وَ حُزني الأعْوَر قبلي نَاحيتكم .
هكذا أنَا يَـا علي وَ هكَذا ليلُ الغُرَباء ؛ كُلمَا هَمَّ بِي الغَسَق ؛ لَملمتُ شَتَاتِي لِمغَادرةِ المكَان وَ وَضَعتُ ثمَن القهوَة وَ الكُرسي الشَّاغِر الماثِل أمَامِي .. ثُم أغَادِرُ المقهَى بأمنيةٍ تلدهَا عَيني تشبهُ الضَّباب ؛ لَو أبتَاعَ روحًا أكثَرَ بهجَة وَ صَبرًا تقيني وَ حُسْن زمهَرِيرَ الاغتِرَاب .
يَفتقدني الوَطَن يَـا علي ؟
المفضلات