بسم الله الرحمن الرحيم


أما من الناحية الفقهية :

فهي ناحية التزاحم، الفقه يقول: بأنه إذا توقف واجب أهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم وفي سبيل حرمة المقدمة لا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم حينما يقال ذلك إذا توقف إنقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز ارض مغصوبة لا يرضى صاحبها باجتيازها فلا بد من اجتيازها حيث تسقط هنا حرية هذا المالك وعدم رضاه، لأن النتيجة أهم من هذه المقدمة، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال، حيث كان الجيش الإسلامي مضطراً إلى الخروج من المدينة عن طريق معين، وهذا الطريق كان فيه مزرعة لأحد الصحابة، وكان لا بد للجيش حينما يمر على هذه المزرعة وبحكم طبيعة مروره كجيش من أن يتلف كثيراً من محاصيل هذه المزرعة ويصيبها بأضرار فصاحب المزرعة ما هان عليه أن يقدم هذه الأضرار في سبيل الله وفي سبيل الرسالة.... احتج على ذلك وصرخ ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: مزرعتي ومالي، فلم يجبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصدر أوامره إلى الجيش، فمشى في هذه المزرعة حتى لم يبق في هذه المزرعة شيء مما كان يخاف تلفه صاحب المزرعة إلا وتلف.

كل ذلك لان النتيجة كانت أهم من المقدمة، كان هذا الجيش يسير لأجل أن يغير وجه الدنيا ولأجل تغيير وجه الدنيا إذا تلفت مزرعة، إذا ضاعت هناك ثروة صغيرة لشخص، في سبيل أن يحفظ مقياس توزيع الثروات في العالم على الخط الطويل الطويل، فهذا أمر صحيح ومعقول من الناحية الفقهية فمن الناحية الفقهية دائماً يقرر أن الواجب إذا توقف على مقدمة محرمة وكان ملاك الواجب أقوى من ملاك الحرمة: فلا بد أن يقدم الواجب على الحرام.

وعلى هذا الضوء حينئذ تثار هذه القضية في هذه الظاهرة التي استوضحناها في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) كحاكم .

وهي انه لماذا لم يطبق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثير من المقدمات المحرمة، أليس إجماع الرأي عليه، أليس تملكه زمام قيادة مجتمع إسلامي، أليس هذا أمراً واجباً محققاً لمكسب إسلامي كبير، لأنه هو الذي سوف يفتح أبواب الخيرات والبركات ويقيم حكومة الله على الأرض.... ؟

إذن فلماذا في سبيل تحقيق هذا الهدف إذا توقف هذا الهدف على مقدمة محرمة من قبيل إمضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان برهة من الزمن، أو إمضاء الأموال المحرمة التي نهبها آل أمية، أو غيرهم من الأسر التي وزع عليها عثمان بن عفان أموال المسلمين.... ؟؟

لماذا لا يكون السكوت مؤقتاً عن غير هذا النهب والسلب مقدمة للواجب الأهم.

ولماذا لا يكون جائزاً حينئذ على أساس توقف الواجب الأهم على ذلك... ؟؟

الواقع هو أن الإمام (عليه السلام) كان لا بد له أن ينهج هذا الطريق ولم يكن بامكانه كقائد رسالي يمثل الإسلام وأهدافه لم يكن بامكانه أن يقبل هذه المساومات وأنصاف الحلول ولو كمقدمة وليس قانون باب التزاحم الفقهي، هنا صالحاً للانطباق على موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك بعد اخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:

النقطة الأولى: انه لا بد وان يلحظ في المقام أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يريد أن يرسخ قاعدة سلطانه في قطر جديد من أقطار العالم الإسلامي وهذا القطر هو العراق.

وكان شعب العراق وأبناء العراق مرتبطين روحياً وعاطفياً مع الإمام (عليه السلام) ولكن لم يكن شعب العراق ولا أبناء العراق يعون رسالة علي (عليه السلام) وعياً حقيقياً كاملاً، ولهذا كان الإمام بحاجة إلى أن يبني تلك الطليعة العقائدية، ذلك الجيش العقائدي الذي يكون أميناً على الرسالة وأميناً على الأهداف وساعداً له ومنطلقاً بالنسبة إلى ترسيخ هذه الأهداف في كل أرجاء العالم الإسلامي .

والإمام (عليه السلام) لم يكن يملك هذه القاعدة بل كان بحاجة إلى أن يبنيها إذن كيف يبني هذه القاعدة؟

هل يمكن أن يبني هذه القاعدة في جو من المساومات وأنصاف الحلول؟ حتى لو كانت هذه المساومات وأنصاف الحلول جائزة شرعاً إلا أن جوازها الشرعي لا يؤثر في هذه الحقيقة النفسية الواقعية شيئاً وهي أن شخصاً لا يمكن أن يعيش في جو من المساومات وأنصاف الحلول فيكتسب روحية أبي ذر أو يكتسب روحية عمار بن ياسر، روحية الجيش العقائدي الواعي البصير بأن المعركة ليست للذات وإنما هي للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات.

هذه الروحية لا يمكن أن تنمو ولا يمكن لعلي (عليه السلام) أن يخلقها في من حوله في حاشيته وفي أوساطه وقواعده الشعبية، في جو من المشاحنات والمساومات وأنصاف الحلول حتى لو كانت جائزة... أن جوازها لا يغير من ملدلوها التربوي شيئاً ولا من دورها في تكوين نفسية هذا الشخص بأي شكل من الأشكال...

إذن فالإمام (عليه السلام) كان أمامه حاجة ملحة حقيقية في بناء دولته إلى قاعدة شعبية واعية يعتمد عليها في ترسيخ الأهداف في النطاق الأوسع وهذه القاعدة الشعبية لم تكن جاهزة له حينما تسلم زمام الحكم حتى يستطيع أن يتفق معها.

على أن هذه المساومات وأنصاف الحلول إنها ضرورات استثنائية لا توجب الانحراف عن ذلك الخط... إنما كان على علي (عليه السلام) أن يبني ذلك الجيش العقائدي كان على علي (عليه السلام) أن ينتزع الخيّر الخيّر الطيّب الطيّب من جماعته وحاشيته العراقيين لكي يشكل منهم كتلة واعية من قبيل مالك الاشتر وغيره وهؤلاء لم يكن بالامكان ممارسة بناء نفسي وروحي وفكري وعاطفي حقيقي لهم في جو مليء بالمساومات وأنصاف الحلول... كانت المساومات وأنصاف الحلول نكسة بالنسبة إلى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي وكان فقدان هذا الجيش العقائدي يعني فقدان القوة الحقيقية التي يعتمد عليها الإمام (عليه السلام) في بناء دولته لأن أي دولة عقائدية بحاجة إلى طليعة عقائدية تستشعر بشكل معمق وموسع أهداف الدولة وواقع أهميتها وضرورتها التاريخية ولهذا كان لا بد من الحفاظ على صفاء وطهر عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد لآلاف من مالك الاشتر أن يشهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات ولا يتنازل إلى أي نوع من أنواع المساومات حتى يستطيعوا من خلال حياة هذا الرجل العظيم أن يتبينوا المدلول الرسالي الكامل لأطروحته الأبعاد الواسعة للصيغة الإسلامية للحياة إذن فكان على علي (عليه السلام) لأجل ممارسة عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد له أن يترفع عن هذه المساومات والحلول الوسط، لكي يستطيع أن يخلق ذلك الجو الرفيع نفسياً وفكرياً وروحياً والذي سوف ينشأ في داخله وفي أعماقه... جيل يستطيع أن يحتضن أهداف أمير المؤمنين (عليه السلام) ويضحي من أجلها في حياته وبعد وفاته...

النقطة الثانية: لا بد من الالتفات أيضاً إلى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء في أعقاب ثورة، ولم يجئ في حالة اعتيادية، ومعنى ذلك إن البقية الباقية من العواطف الإسلامية، كل هذه العواطف تجمعت، ثم ضغطت، ثم انفجرت في لحظة ارتفاع... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع في حياة امة، لكي يستطيع أن يستثمر هذه اللحظة في سبيل إعادة هذه الأمة إلى سيرها الطبيعي...

كان لا بد للإمام (عليه السلام) أن يستثمر لحظة الارتفاع الثورية هذه، لأن المزاج النفسي والروحي وقتئذ لشعوب العالم الإسلامي، لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن لكي يمشي حسب مخطط تدريجي ، وإنما كان هو المزاج الثوري الذي استطاع أن يرتفع إلى مستوى قتل الحاكم والإطاحة به، لأنه انحرف عن كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) إذن هذا الارتفاع الذي وجد في لحظة في حياة الأمة الإسلامية لم يكن من الهين إعادته وبعد ذلك كان لا بد للحاكم الذي يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة أن يعمق هذه اللحظة أن يمدد هذه اللحظة، أن يرسخ المضمون العاطفي والنفسي في هذه اللحظة عن طريق هذه الإجراءات الثورية التي قام بها أمير المؤمنين..

لو أن الإمام علي (عليه السلام) أبقى الباطل مؤقتاً وأمضى التصرفات الكيفية التي قام بها الحكام من قبل، لو أنه سكت عن معاوية وسكت عن أحزاب أخرى مشابهة لمعاوية بن أبي سفيان إذن لهدأت العاصفة ولأنكمش هذا التيار العاطفي النفسي، وبعد انكماش هذا التيار العاطفي وهدوء تلك العاصفة سوف لن يكون بمقدور الإمام (عليه السلام) أن يقوم بمثل هذه الإجراءات.

النقطة الثالثة: ولا بد أيضاً من الالتفات إلى نقطة هي: أن الإمام (عليه السلام)، كان حريصاً على أن تدرك الأمة كأمة، أن واقع المعركة بينه (عليه السلام) وبين خصومه، بينه وبين معاوية ليست معركة بين شخصين، بين قائدين، بين قبيلتين، وإنما هي معركة بين الإسلام والجاهلية.

كان حريصاً على أن يفهم الناس أن واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) والجاهلية التي حاربته في بدر وأُحد وغيرهما من الغزوات وكان هذا الحرص سوف يمنى بنكسة كبيرة لو أنه (عليه السلام) أقر معاوية، وأقر مخلفات عثمان السياسية والمالية، لو أنه أقر هذه المخلفات ولو إلى برهة من الزمن إذن لترسخ في أذهان الناس، وفي أذهان المسلمين بشكل عام شك في أن القضية ليست قضية رسالية وإنما هي قضية أهداف حكم، إذا انسجمت مع واقع هذه المخلفات فتلغي هذه المخلفات ذلك الشك الذي نما عند الأمة في أمير المؤمنين (عليه السلام) بالرغم من انه لم يكن يوجد له أي مبرر موضوعي وإنما المبرر كانت له مبرراته الذاتية بالرغم من انه لم يكن يوجد أي مبرر موضوعي لشك، وبالرغم من إن المبرر الوحيد للشك كان مبرراً ذاتياً وبالرغم من هذا استفحل هذا الشك وقرر، وامتحن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) بهذا الشك ومات واستشهد والأمة شاكة... ثم استسلمت الأمة بعد هذا وتحولت إلى كتلة هامدة بين يدي الإمام الحسن (عليه السلام) هذا كله بالرغم من أن الشك لم يكن له مبرر موضوعي فكيف إذا افترضنا أن الشك وجدت له مبررات موضوعية بحسب الصورة الشكلية.

كيف لو أن المسلمين رأوا أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو رمز الأطروحة ورمز الأهداف الرسالية هذا الشخص يساوم ويعمل ويبيع الأمة ولو مؤقتاً مع خيار الفسخ.




يتبــــع ...