ليلة الهرير :
وهي الليلة التي كان البرد فيها قارصاً إلى الحد الذي كان يسمع للجنود هرير كهرير الكلب ، وبالإضافة إلى البرد في هذه الليلة فقد اشتد القتال بين الجيشين ، بحيث قتل الإمام علي ( عليه السلام ) في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرون رجلاً ، وكان ( عليه السلام ) إذا قتل رجلاً كبّر .
وكان لمالك الأشتر فيه نصيب كبير ، فكان يقول : إنّ هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلاّ عن دينكم ليميتوا السنّة ، ويحيوا البدعة ، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عزّ وجل منها بحسن البصيرة ، فطيبوا عباد الله أنفساً بدمائكم دون دينكم ، فإنّ ثوابكم على الله ، والله عنده جنّات النعيم ، وإنّ الفرار من الزحف فيه السلب للعزّ والغلبة على الفيء ، وذل المحيى والممات ، وعار الدنيا والآخرة .
وفي ليلة الهرير كان الأشتر يضرب ضرباته بكل قوّة حتّى اخترق صفوف أهل الشام ، وأجرى حولهم عمليات الالتفاف والتطويق ، فانكشفت غالب صفوفهم ، وكادوا ينهزمون ، حتّى وصل الأشتر إلى قرب خيمة معاوية بن أبي سفيان ، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح . خدعة رفع المصاحف :
لمّا رأى معاوية بن أبي سفيان انتصارات جيش الإمام علي ( عليه السلام ) على جيشه ، وقد قرب منه القائد مالك الأشتر مع مجموعته ، دعا عمرو بن العاص إلى خطّة للوقوف أمام هذه الانتصارات .
فقام عمرو بن العاص بخدعة ، حيث دعا جيش معاوية إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح ، ومعنى ذلك أنّ القرآن حكماً بيننا ، أراد من ذلك أن يخدع أصحاب الإمام علي ( عليه السلام ) ، ليقفون عن القتال ويدعون الإمام علي ( عليه السلام ) إلى حكم القرآن .
وفعلاً جاء زهاء عشرين ألف مقاتل من جيش الإمام ( عليه السلام ) حاملين سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود ، يتقدّمهم عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي اجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم .
فقال ( عليه السلام ) : ( عباد الله إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وإنّي اعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شرّ الأطفال وشرّ الرجال ، إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل ، إنّهم والله ما رفعوها ، إنّهم يعرفونها ولا يعملون بها ، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة ، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا ) . ثمّ قال ( عليه السلام ) لهم : ( ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ... ) .
قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك ، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد اشرف على عسكر معاوية ليدخله ، فأصرّوا على رأيهم ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذا الموقف أمام خيارين لا ثالث لهما :
1ـ المضي بالقتال ، ومعنى ذلك أنّه سيقاتل ثلاثة أرباع جيشه وجيش أهل الشام .
2ـ القبول بالتحكيم وهو أقلّ الشرّين خطراً . وهكذا كان القبول بالتحكيم نتيجة حتمية لظروف قاهرة لا خيار لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
قُتل من الطرفين خلال المعركة ( 70 ) ألف رجلاً ، فمن أصحاب معاوية من أهل الشام ( 45 ) ألف رجلاً ، ومن أصحاب الإمام علي ( عليه السلام ) من أهل العراق ( 25 ) ألف شهيداً .
المفضلات