مليكا تروي القصة
أنا (مليكا) بنت بنت يشوعا بن قيصر وأمي من ولد الحواريين تنتسب الى وصي المسيح شمعون.. وراحت الاميرة الرومية تروي قصتها وقد اشتعلت المشاهد المثيرة في ذكراتها الغضّة.
مشاهد سوف تبقي متألقة مدي العمر.. مشاهد حبيبة الى روحها.. كم تعذبت طوال الشهور الماضية؟ لقد قاست الكثير.. كانت الغيوم تعبر سماء دجلة.. غيوم بيضاء ناصعة ظهرت بعد تلك الليلة المطيرة.. ذكرتها الغيوم بحلّة العرس.. آه كم هو مقيت الزواج من انسان تافه.. ذلك الامير الذي لا يعرف من الحياة سوي ظاهرها البراق.. ان ذكراتها تشتعل بالمشاهد المثيرة:
(كان القصر المهيب يجع بالحركة وباحة القصر تشهد بناء عجيب.. منصة عالية حيث يجثم عرش مرصع من الجواهر واعمدة من خشب يحسبها المرء رخاماً، ومدرج خشبي أنيق تنهض علي جانبيه الصلبان..
ووصل الامير المغرور ليرتقي المدرّج الى حيث العرش..
اما هي فقد كانت تعيش مشاعر الفجيعة.. سوف تقضي العمر الى جانب انسان تافه أحمق..
في البداية رفضت، ولكن هناك تقاليد تحكم القصر.. الاميرات للامراء اتجهت الى الكنيسة توسلت بالعذراء.. بكت..
هل هناك من طريق للخلاص؟ ماذا بوسعها أن تفعل؟ هل تحدث معجزة تنقذها من هذا الجحيم..
عندما وجدت نفسها في الطريق الى المنصّة وقد احتف عشرات الاساقفة والامراء والجنود كانت قد استسلمت لقدرها.. وفي تلك اللحظات حدثت المعجزة.. اهتزّت الارض وتساقطت الاعمدة الخشبية وانهار العرش ومعه الامير المذعور الذي فقد وعيه..
حدث كل شيء في لحظات.. وعندما سكنت الارض ظهرت علي وجوه الاساقفة ملامح تشاؤم وعطّلوا مراسم عقد القران.. مثل طائر حبيس عادت (مليكا) الى مخدعها ورمت بعيداً حلّة العرس وارتدت ثوباً كثر حشمة ووقاراً، ثوباً يشبه مسوح السيدة العذراء وانطلقت صوب الكنيسة لتسجد أمام الصليب وتمثال مريم.. شكرت من كل قلبها الربّ وصلت بخشوع وبكت فرحاً.. ودعت الربّ أن تكون زوجة لانسان طاهر.. انسان لم يتدنّس قلبه بوساوس الارض!
ـ يا الهي هل هو حلم ما أراه أم يقظة؟! في باحة القصر هوت المنصّة والعرش نهض عرش من نور.. السيد المسيح جالس علي العرش ويدخل رجل مهيب.. رجل يرتدي ثياباً عربية شعره يشبه تموجات بحيرة رائقة.. سوالفه تتلالا.. وابتسامة تشرق وجهه المضيء.. وينهض السيد المسيح فيعانقه وادركت أنه (أحمد) الذي بشّر به انجيل (برنابا)..
قال أحمد: يا روح الله جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكا لابني هذا!
وأومأ الى فتي أسمر.. عيناه نجلاوان تتألقان بالصفاء لكأنهما نافذتان تطلاّ ن علي عالم من نور..
شمعون يبتسم، والحواريون..
عندما انتبهت وجدت نفسها بين أيدي الراهبان وكان جبينها يلتهب من الحمّي..
آه أنها لا تستطيع أن تبوح لاحد بما رأته.. عزفت روحها عن الطعام.. نحل جسمها.. وكانت روحها تشتد سطوعاً وعجز الطبّ عن فعل شيء..
وجاء جدّها فجلس عند الاميرة التي ما تزال تخبو كشمعة في نهايات ليل طويل قال لها بحنّو: هل تشتهين شيئاً قالت الفتاة: يا جدّي أري أبواب الفرج علي مغلقة.. فلو كشفت العذاب عن أسري المسلمين.. وفككت عنهم الاغلال.. لرجوت أن يهب المسيح وأمّه لي الشفاء.
قال الجدّ، وقد تمثلت في ذكراته محنة الاسري يوم أعدم منهم اثنا عشر ألف أسير بأوامر من تيدورا:
ـ أعدك بذلك يا عزيزتي!
شاعت البهجة في قلب مليكا.. وتماسكت لتتناول قدراً يسيراً من الطعام..
مرّت ثلاث ليال ومليكا اعماقها تضطرم تحت تأثير الرؤيا.. ما تزال صورة الفتي العربي الاسمر تتألق في ذكراتها.. لكأنها رأته حقيقة لا في عالم الخيال.. والاحلام.
قبيل الغروب وقد غابت الشمس خلف ذري الاشجار ظهرت العذراء مريم.. لم تكن وحدها كانت معها سيّدة وجهها يزهو نوراً علي رأسها كليل من اثني عشر كوكباً، وقد اشرقت فوق رأسها شمس بهية وقمر منير(1) تحفها حوريات الجنة قالت مريم: هذه سيّدة نساء العالمين.. فاطيما.. أم زوجك.. مليكا تهبّ ترمي بنفسها في احضان السيّدة الكريمة.. آه أنه لا يزورني.
قالت السيّدة: لانك لم تدخلي دينه..
ـ وماذا أفعل يا سيّدة النساء؟
تشهدين بأن الله واحد لا ءله اءلاّ هو وتصدقين رسالة أحمد الذي بشّر به المسيح.
عندما استيقظت من النوم كان اسم أحمد علي شفتيها..
جففت حبّات عرق انبجست فوق جبينها الملتهب.. ما تزال مليكا محمومة.. تستغرقها الرؤيا العجيبة لقد تعلمت العربية منذ صباها.. منذ أن شهدت مذبحة الاسري المسلمين الذين رفضوا اعتناق النصرانية واختاروا الموت.(2)
لقد اتقنت العربية لكنها لم تتحدث بها الى أحد.. الرؤيا العجيبة.. تحيّر ذهنها.. تجعل قلبها فارغاً، والوجه الاسمر.. ذلك الفتي العربي من أين جاء؟! وهل ستلتقيه في عالم الحقيقة؟ أم سيبقي كل شيء رهن الخيال؟!
السفينة تشق أمواج دجلة صوب الشمال، وتيّار الذكريات المشتعلة كبروق سماوية ما يزال يستغرق وعي مليكا التي اختارت اسماً جديداً تختبيء وراءه قصّتها العجيبة..
في كل ليلة كانت تري ذلك الفتي الاسمر صدّقت أنها زوجته وكانت روحها الظامئة تشتاق الى رؤيته..
عيناه الواسعتان تختصران العالم..
عندما سمعت ذات يوم أن القصر يفكر بارسال جيش ومهاجمة ديار الاسلام تحفّزت كل خليّة في كيانها، أن روحها تضطرم.. سوف تلتحق بالجيش بحجة التمريض وتنضم الى الوصائف اللائي يقمن بهذه الخدمة..
لم تضع وقتها.. لكأنها مستسلمة لقدرٍ عجيب.. شيء لا يمكن وقوعه الاّ في عالم الخيال أو عالم آخر مجهول!
تنكرت في زيّ الخدم.. وغادرت القصر لتختفي الى الابد.. سوف يبحثون عنها.. في كل مكان دون جدوي سوف يبقي سرّها مكنوناً وقد تستحيل الى قدّيسة في المستقبل!
قدرها أن ترافق طلائع الجيش الرومي(3) ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء..
وعلي الحدود وقعت اشتبكات محدودة هزمت فيها طلائع الروم ووقعت مليكا في أسر المسلمين فكانت في سهم شيخ مسلم سألها عن اسمها فقالت علي الفور:
ـ نرجس.
قال الشيخ:
ـ اسم الجواري.
وعندما وصلت بغداد طالعها عن بعد تمثال الفارس الذي يتربع فوق قبة قصر الذهب في قلب بغداد.. بيده رمح طويل يشير به الى جهة الشرق..
مليكا في بغداد جارية في سوق الرقيق.. سرّها مكنون كلؤلؤة في صدفة في اعماق بحيرة تغفو بسلام.. حكايتها حكاية عجيبة أغرب من الاساطير..
كم انتابتها الهواجس طوال الايام الماضية كيف تستلم للرؤيا وهل يسلم المرء نفسه للاحلام؟ ولكن تلك الرؤيا ليست اضغاث أحلام.. اءنها كثر اشراقاً من كثير من الوقائع لقد استغرقت شعورها وسيطرت علي مشاعرها.
يتبع
المفضلات