النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: حين أبصر النور

  1. #1
    عضو فعال
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    92
    شكراً
    32
    تم شكره 17 مرة في 12 مشاركة
    معدل تقييم المستوى
    177

    حين أبصر النور

    حين أبصر النور..

    * إيمان مغازي الشرقاوي
    لم يكن يدري أنّه كان يعيش مبصراً منذ زمن وإن بدا للناس ضريراً، ولم يشعر في لحظة من اللحظات بنعمة الابتلاء كما استشعرها في تلك اللحظة، تتردّد على لسانه كلمات الحمد والثناء؛ فتظن حين تسمعها منه أنّه أسعد الناس على وجه الأرض!
    أمّا حاله مع كتاب الله فقد حفظه ووعاه قلباً وقالباً، إذ وهبه الله أمّاً صالحة رحيمة مشفقة، كانت له الأُم والأب، فلم يشعر بمرارة اليتم التي اُبتلي به في صغره، بل وكانت له أيضاً بمثابة عينيه التي افتقدهما وهو طفل صغير إثر مرض ألمّ بهما وهو لم يخط بعد الرابعة من عمره، فلم يتحمّل أبوه آنذاك نفقات علاجه؛ حيث كان يعمل عاملاً بسيطاً ليوفر لهم لقمة العيش الحلال التي تسد جوعهم، فذهب بصره إثر وصفات علاجية باءت بالفشل، ونتج عنها ضياع نور عينيه! كان في صغره كثيراً ما يسمع ضحكات أصحابه وهم يلعبون ويمرحون أمام دورهم وهو واقف في مكانه لا يستطيع أن يحرّك ساكناً؛ لأنّه لا يرى النور ولا يعيش إلا في الظلام الذي يلفه من كل اتجاه، لكنّه مع كل ذلك كان مرحاً يحب الدعابة والتبسط في الحديث، وكثيراً ما حاول مشاركتهم إلا أنّه يفشل في مباراتهم في جريهم ولعبهم فيرتد على عقبيه جالساً في مكانه بهدوء، لكن أقسى اللحظات التي كانت تمر به، فهو حين يقف على باب مدرسته منتظراً أُمّه الحنون والوساوس تتردّد في ذهنه توحي إليه أنّها قد تتأخّر عليه وقد تنسى الموعد؛ وهنا يلجأ إلى الله طالباً منه العون والأنس والمعية.
    سارت به الأيام بحلوها ومرها، فقد عوّضه الله تعالى عن عينيه بقوة الإيمان وبرد اليقين، فسبق أصحاب الأبصار ببصيرته، حتى صار علماً في علمه الذي أكمله، ومثلاً في العزيمة والإصرار ومصارعة أهوال الحياة والإنتصار على البلاء والتعايش معه برضاً وصبر.
    - راوده الحلم:
    سمع عن تقدّم الطب في علاج أمراض العيون، وردّد الأهل والأصدقاء على مسامعه هذه البُشرَيات، فراوده الحلم الذي نسيه منذ زمن، حلم رؤية النور بعد الظلام.
    تخيّل نفسه وهو يرى أُمّه العظيمة التي ربته وصنعت منه رجلاً، تمنى لو يردّ لها بعض الجميل بعد أن وهن عظمها وشاب رأسها، ويعوضها عن سنوات الحرمان التي قضتها معه وهو صغير، سار بفكره بعيداً حيث قبر أبيه وقد وقف هناك يترحم عليه.
    ظل حلم العودة يراوده ويلح عليه ليجد نفسه وهو ينظر إلى وجه زوجته الحنون التي لا يعرف ملامحه، وتمنى من أعماق قلبه أن يعوضها عن كلّ ما فقدته وقد ضحت بأشياء كثيرة عند الزواج منه.
    استمر الحلم في مطاردته ليشاهد نفسه وهو ينظر إلى وجوه أصحابه ويعانقهم بشوق. فلطالما تمنى أن يراهم ويتعرّف على ملامحهم.
    عاش مع الحلم كأنّه حقيقة فوجد نفسه جالساً أمام شاشة التلفاز ليرى أخبار العالم بعينيه بعد أن كان يسمعها فقط بأذنيه؛ فليس السامع كالمشاهد وليست الحقيقة كالخيال.. وظل خيال حلمه يسير معه أينما سار ويحط معه الرحال إلى أن سبحت روحه في فضاء واسع ظلت تحلق فيه حتى وصلت به إلى بلاد الحرمين الشريفين حاجاً ومعتمراً؛ حيث البيت الحرام والكبة المكرمة ومسجد الرسول (ص)، وخُيّل إليه أنّه يستنشق مسك هوائها ويتعبد بالنظر إليها وها هو ينظر إلى القبة الخضراء ويذهب للحبيب المصطفى (ص) مسَلّماً عليه وعيناه تذرفان شوقاً وحبّاً.. عاش حلاوة النظر ولذة المناجاة وسمو الروح في تلك اللحظة.. لحظة حلمه بالعودة، وعندها فقط قرّر الإستجابة لإلحاح الأهل والزوجة والصحاب بإجراء العملية لإستعادة نور بصره.
    - حالة الترقب:
    الكل متوجس خِيفة، فقد أجريت له العملية، والجميع في إنتظار المعجزة، وما أقسى تلك اللحظات عليه وعلى أُمّه وزوجة ومَن حوله من الأطباء، كانت الأعين شاخصة، والنفوس مترقبة، تُرَى هل سيردّ الله عليه بصره وهل ستنجح هذه العملية؟ الكل يتساءل في نفسه.. أمّا هو فقد تعوّد على الظلام فلا ضير إن لم يبصر، لكن حلم عودة البصر كان يلاحقه كل لحظة منذ فكّر فيه، لذا فإنّه لم يصدق نفسه حين فتح عينيه فرأى خيوطاً من النور الذي حُرم منه منذ كان صغيراً، وتوالت تساؤلات الأطباء عليه: هل ترى شيئاً؟ ماذا ترى؟ صف ما تراه.. وبعد اختبارات منهم حمدوا الله على نجاح العملية، وعاد النور لإحدى العينين فقط.. كان أوّل ما فعل أن سجد لله شكراً، لكنّه سجد بعينيه؛ إذ ليس له أن يحني رأسه حتى يتماثل للشفاء التام تبعاً لتعليمات الأطباء.
    أحس كم هو ممنونٍ لهؤلاء الأطباء الطيبيين الذين كانوا سبباً في عودة النور إليه، ودعا من أعماق قلبه أن يجزيهم الله عنه خيراً، ونظر في نفسه ورأى نِعَم الله تغمره في كل شيء حتى في نجاح العملية، وتذكر قوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 21). وتجسدت أمامه الآية: (أَلَمْ نَجْعَل لّهُ عَيْنَيْنِ * ولِسَاناً وشَفَتَيْنِ) (البلد/ 8-9)، فاستشعر النعمة وعاين المنّة فأطلق لسانه ذكراً وشكراً لله المنعم.
    عاد إلى بيته بعد أن تعافى بفضل الله ثمّ بإخلاص هذا الطاقم من الأطباء والممرضين.
    انتشر خبر عودة النور إليه، وتوافد الناس على داره مهنئين، ثمّ انشغل كل في ذات نفسه، وعاد هو كذلك لعمله، لكنّه عاد إنساناً جديداً، على الفطرة طاهراً نقياً كيوم ولدته أُمّه، عاد إلى عمله وخرج إلى الشارع بعين واحدة مبصرة لكنّها تحمل في إبصارها أمانيّ كثيرة، وتبني أحلاماً واسعة، وترسم آمالاً عريضة، وهكذا خرج إلى الحياة من جديد. كانت الأشياء تمر من أمام عينيه وكأنّه في حلم عجيب، ثمّ تحول الحلم شيئاً فشيئاً إلى كابوس مخيف ظل يطارده طوال نهاره، كما طارده من قبل حلم عودة البصر! فلقد هاله ما رأى.
    - ظواهر سلبية:
    شاهد في طريقه على أرصفة الشوارع العديد من المتسولين وهم بكامل صحتهم، لكنّهم يريقون ماء وجوههم وقد اتخذوا من التسول حرفة وصنعة.. نظر إلى المقاهي وقد اكتظت بالرواد من الرجال والشباب.. لم يكن يتخيّل أن يرى بعض الفتيات وقد كشفن عن سوقهنّ وأذرعهنّ ولبسن الضيق والخليع من الثياب.. رأى السائقين يتسابقون في سرعة القيادة ويدوسون مع البنزين الأمن في كثير من قلوب الأطفال والأُمّهات..
    شاهد شباباً فارغين يتبارون بسياراتهم الفارهة ويلعبون لعبة الموت وكأنّهم في ساحة رياضية للسباق، وشباباً من رواد مقاهي الإنترنت ومدمني الشات، ودفعه فضوله وشوقه للنظر فشاهد بأُمّ عينه منها ما لا يخطر له ببال حتى ظن أنّها شر محض لا خير فيها.. شاهد على الجدران والحيطان صوراً لا تليق ومناظر لا تسر، وإعلانات تحتاج للحشمة والوقار، وكلمات وشعارات جوفاء.. رأى بعض الموظّفين يأتون إلى عملهم متأخّرين ويخرجون خلسة دون أن يراهم أحد بعد أن وقّعوا أو وقَّع عنهم غيرهم حضوراً وانصرافاً كما يحلو لهم.. رأى الغش في قاعات الامتحانات بين الطلبة والطالبات دون مراقبة لله.. رأى الأدراج تفتح في أماكن العمل لتتلقى الرشوة بإسم الأتعاب والحلوى دونما خجل.. رأى من البعض نظرات السخرية والهمز واللمز لمن ينصحهم أو يوجههم.. رأى الأخ يسرق أخاه ويستولي على حقّه أو يأكل إرثه ثمّ يسبقه للمحكمة.
    رأى امتهان الإنسان لأخيه الإنسان وشُحَه عليه بالكلمة الطيبة والبسمة الصافية والدعوة الصالحة.. رأى انشغال الناس بدنيا عن دين ووجوهاً يغشاها الكدح والكد والتعب والنصب.. عاين بُعد الصلة بين الأرحام والأقارب رغم قربهم وسهولة الإتّصال بهم.. ورأى انشغال الوالدين عن فلذات الأكباد واتساع الهوة بين جيل الآباء وجيل الأبناء.. رأى البعض ينافقه للحصول على رضاه والبعض الآخر يداهنه لكسب وده، وغيرهم يناصبه العداء غيرة منه وحسداً، رأى.. ورأى.. ورأى ما لم يكن في الحسبان..
    - ما يشيب لهوله الوالدان:
    رجع إلى بيته حزيناً كاسف البال.. امتدت يده إلى زر التلفاز ليذهب عن نفسه لوعتها، لكنّه شاهد على شاشته هو الآخر ما يشيب لهوله الوالدان.. رأى ما حل بأرض الإسراء، وبلاد الرافدين، والبوسنة، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، والسودان، وإريتريا، والصومال، وغزة، ولبنان.. رأى دماء تُسفك هنا وهناك، وأعراضاً تُنتهك، ونساء تُرمّل، وصغاراً تُيتم، وسجوناً تُفتح، ومعتقلين يعذبون، وحقوقاً تضيع، وشباباً فقد الهوية، وعالماً فقد الإنسانية، وخريطة للعالم قد تغيّرت وتبدلت.
    وتعجب من حاله، فلقد كان يسمع عن الجمال ويحسه، لكنّه كان لا يراه، والآن وقد تداخلت الصور أمامه ورآها رأي العين واختلط الحسن الكثير منها بالقبيح الذي مع قلته يزكم الأنوف برائحته الكريهة وهو إن كان قليلاً لكنّه كالخل حينما يفسد العسل.. وتساءل في نفسه: أين الخلل؟ وكيف الدواء؟ وجاءه الجواب الذي طالما ردده في خشوع: (... إنّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا بِأنْفُسِهِم) (الرعد/ 11).. عافت نفسه الخروج من البيت.. لقد كان يعيش في ظلام لكنّه يبصر، أما الآن فهو يبصر لكنّه يعيش في ظلام..




    منقول ..

  2. الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ قـصر الشوق على المشاركة المفيدة:

    عبدالله خليف (06-27-2010)

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أبشر بسعدك يامكحل جفوني
    بواسطة أم علاوي 2 في المنتدى منتدى الجمال والأناقة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-07-2009, 10:32 PM
  2. النور الحسيني } ~
    بواسطة نبض قلب في المنتدى منتدى الصور
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-07-2008, 01:56 PM
  3. Nokia Aeon ︹︺ نوكـــــيا خيــــالي ︹︺
    بواسطة sh0osh0o في المنتدى منتدى الجوال الحسيني
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 01-08-2008, 07:27 PM
  4. النور من النور ..
    بواسطة شذى الزهراء في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 12-15-2007, 10:55 PM
  5. النور
    بواسطة همسات وله في المنتدى منتدى الشعر والنثر
    مشاركات: 35
    آخر مشاركة: 04-24-2007, 05:30 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •