©{« يافضة .. اخبريني عن مولاتك فاطمة »}©

روى ورقة بن عبد الله الأزدي قال : خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام
راجيا لثواب الله رب العالمين ، فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء
،
ومليحة الوجه عذبة الكلام ، وهي تنادي بفصاحة منطقها ، وهي تقول :
اللهم رب الكعبة الحرام ، والحفظة الكرام ، وزمزم والمقام ، والمشاعر
العظام
ورب محمد خير الأنام ، صلى الله عليه وآله البررة الكرام ،
أسألك أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين ، وأبنائهم الغر المحجلين الميامين
.
ألا فاشهدوا يا جماعة الحجاج والمعتمرين ، أن مواليّ خيرة الأخيار ،
وصفوة الأبرار ، والذين علا قدرهم على الأقدار
، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار ، المرتدين بالفخار .
قال ورقة بن عبد الله : فقلت : يا جارية !..
إني لأظنك من موالي أهل البيت عليهم السلام .. فقالت :
أجل ، قلت لها : ومن أنتِ من مواليهم ؟.. قالت :
أنا فضة أمَة فاطمة الزهراءا بنة محمد المصطفى
صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .

فقلتُ لها :
مرحبا بك وأهلا وسهلا ، فلقد كنت مشتاقا إلى كلامك ومنطقك
فأريد منك الساعة أن تجيبني من مسألة أسألك ، فإذا أنت فرغت
من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتى آتيك وأنت مثابة مأجورة ،
فافترقنا .
فلما فرغت من الطواف وأردت الرجوع إلى منزلي ، جعلت طريقي
على سوق الطعام ، وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس ،
فأقبلت عليها واعتزلت بها وأهديت إليها هدية ولم أعتقد أنها صدقة ،
ثم قلت لها : يا فضة!.. أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهراء (ع) ،
وما الذي رأيتِ منها عند وفاتها بعد موت أبيها محمد (ص)؟..
قال ورقة : فلما سمعتْ كلامي ، تغرغرت عيناها بالدموع ثم انتحبت نادبة
وقالت :
يا ورقة بن عبد الله !.. هيّجت عليّ حزنا ساكنا ، وأشجانا في فؤادي
كانت كامنة ،
فاسمع الآن ما شاهدت منها (ع) :
اعلم أنه لما قُبض رسول الله (ص) افتجع له الصغير والكبير ،
وكثر عليه البكاء ، وقلّ العزاء ، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب
والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب ، ولم تلق إلا كل باك وباكية ،
ونادب ونادبة ،
ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب ، والأقرباء والأحباب ،
أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء (ع) ،
وكان حزنها يتجدد ويزيد ، وبكاؤها يشتد . فجلستْ سبعة أيام لا يهدأ لها
أنين ،
ولا يسكن منها الحنين ، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول .
فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صبرا إذ
خرجت وصرخت ،
فكأنها من فم رسول الله (ص) تنطق ، فتبادرت النسوان ،
وخرجت الولائد والولدان ، وضج الناس بالبكاء والنحيب ،
وجاء الناس من كل مكان ، وأُطفئت المصابيح لكيلا تتبين صفحات النساء ،
وخُيّل إلى النسوان أن رسول الله (ص) قد قام من قبره ، وصارت الناس في
دهشة
وحيرة لما قد رهقهم ، وهي (ع) تنادي وتندب أباها :
وا أبتاه ، وا صفياه ، وا محمداه ، وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل
واليتامى ،
من للقبلة والمصلى ، ومن لابنتك الوالهة الثكلى !..
ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئا من عبرتها ،
ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد (ص) فلما نظرت إلى الحجرة
،
وقع طرفها على المأذنة فقصّرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ،
إلى أن أُغمى عليها ، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى
صدرها
وجبينها حتى أفاقت ، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول :
رُفعت قوّتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوي ، والكمد قاتلي
يا أبتاه !.. بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة ، فقد انخمد صوتى ،
وانقطع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدر دهري ، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسا
لوحشتي ،
ولا رادا لدمعتي ، ولا معينا لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ،
ومهبط جبرائيل ،
ومحل ميكائيل .
انقلبتْ بعدك يا أبتاه الأسباب ، وتغلّقت دوني الأبواب ، فأنا للدنيا
بعدك قاليةٌ ،
وعليك ما تردّدت أنفاسي باكيةٌ ، لا ينفذ شوقي إليك ، ولا حزني عليك ..
ثم نادت :
يا أبتاه ، والبّاه !..

ثم قالت :
إنّ حزني عليك حزنٌ جديد***وفؤادي والله صبٌّ عنيدُ
كلّ يومٍ يزيد فيه شجوني***واكتيابي عليك ليس يبيدُ
جلّ خطبي فبان عني عزائي***فبكائي كلّ وقتٍ جديدُ
إنّ قلباً عليك يألف صبرا***أو عزاء فإنه لجليدُ
ثم نادت :
يا أبتاه !.. انقطعت بك الدنيا بأنوارها ، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك
زاهرة ،
فقد اسوّد نهارها ، فصار يحكي حنادسها رطبها ويابسها .
يا أبتاه !.. لا زلتُ آسفة عليك إلى التلاق .
يا أبتاه !.. زال غمضي منذ حقّ الفراق .
يا أبتاه !.. مَن للأرامل والمساكين ؟.. ومَن للأمة إلى يوم الدين ؟.
يا أبتاه !.. أمسينا بعدك من المستضعفين .
يا أبتاه !.. أصبحت الناس عنّا معرضين ، ولقد كنا بك معظّمين ، في
الناس غير مستضعفين ،
فأيّ دمعةٍ لفراقك لا تنهمل ؟.. وأيّ حزنٍ بعدك عليك لا يتصل ؟.. وأيّ
جفنٍ بعدك بالنوم يكتحل ؟.
. وأنت ربيع الدين ، ونور النبيين ، فكيف للجبال لا تمور ؟.. وللبحار
بعدك لا تغور ؟.
. والأرض كيف لم تتزلزل ؟.. رُميتُ يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن
الرزيةُ بالقليل ،
وطُرقت يا أبتاه بالمُصاب العظيم ، وبالفادح المهول .
بكتك يا أبتاه !.. الأملاك ، ووقفت الأفلاك ، فمنبرك بعدك مستوحشٌ ،
ومحرابك خالٍ من مناجاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ،
والجنة مشتاقةٌ إليك وإلى دعائك وصلاتك .
ويا أبتاه ، ما أعظم ظلمة مجالسك !.. فوا أسفاه !..
عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك ، وأُثكل أبو الحسن المؤتمن ،
أبو ولديك الحسن والحسين ، وأخوك ووليك وحبيبك ، ومن ربّيته صغيراً
وآخيته كبيراً ،
وأحلى أحبابك وأصحابك إليك ، من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً ،
والثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا ، والأسى لازمنا . ثم زفرتْ زفرةٌ ،
وأنّت أنّةٌ كادت روحها أن تخرج ، ثم قالت :
قلّ صبري وبان عني عزائي***بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين اسكبي الدمع سحا***ويك لا تبخلي بفيض الدماء
يا رسول الإله يا خيرة الله***وكهف الأيتام والضعفاء
قد بكتك الجبال والوحش جمعا***والطير والأرض بعد بكْي السماء
ثم رجعت إلى منزلها ، وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها ،
وهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تهدأ زفرتها


المصدر: بحار الانوار ج43/ص177


تحياتي للجميع
هديل