الحمراء «عز بعد فاقة» و«مونو» ملتقى «المخمليين» و«الجميزة» مرتع «المتسكعين»
حزيران 21, 2010 ·
في مساحة لا يتجاوز قطرها خمسة كيلومترات مربعة، يضمّ قلب بيروت ثلاثة شوارع يشكل السهر أحد وظائفها الأساسية: مونو والجميزة شرقاً والحمراء غرباً. انها شوارع تتفاوت حياتها النهارية بين التسوّق في الحمراء والمطاعم المكلفة في مونو والسكن الصرف في الجميزة.
أما في الليل فتتحوّل هذه الشوارع ثلاثة عوالم يختلف واحدها عن الاخر، ويجمع بينها أنّها ترفع «راية» السهر الذي يميّز بيروت عن بقية المدن اللبنانية، سواء شمالا او جنوبا.
لا يمكن اعتبار الشوارع الثلاثة مناطق «صافية» طائفياً، لكن ثمة طابعاً طائفياً يغلب على كل منها. فالحمراء الذي يقع غرب بيروت محسوب على المسلمين رغم صبغته اليسارية والعلمانية، ورغم الوجود المسيحي في شارع المكحول المتفرّع منه.
والجميزة الذي يقع شرق بيروت هو شارع «مسيحي» في شكل أو في آخر، رغم أنّ عدداً كبيراً من رواده هم من المسلمين. ولعل كونه امتداداً جغرافياً لمنطقة الأشرفية بكثرة الكنائس المحيطة به يجعله مسيحيّ السكان والنكهة.
أما مونو فيقع في الوسط تماماً: بين الحمراء والجميزة، بين الأشرفية وزقاق البلاط، وهو الأقرب الى ساحة الشهداء التي كانت مسرح القتال في سنوات الحرب الاهلية وصارت مسرح التعايش في سنوات السلم الأهلي بعد اعادة بنائها في منتصف تسعينات القرن الماضي.
الحنين اليساري العتيق
الحمراء هو الشارع الاقدم من حيث تاريخ السهر الذي يحمله. وعصره الذهبي بدأ في منتصف القرن الماضي. انه شارع راوحت «بورصته» بعد انتهاء الحرب بين الصعود والهبوط، بحسب الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية.
فيديل سبيتي، الصحافي والكاتب المدمن السهر في الشوارع الثلاثة، يعتبر أنّ «الحمراء شارع يعيش طوال الوقت من ذاكرته، وهو مصنوع من ذاكرة الستينات في الدرجة الأولى». ويضيف سبيتي الذي يسهر خصوصاً في الحمراء وتعرّف الى حياة السهر فيه «حاول الشارع أن يكون شيئاً في التسعينات، لكن في أواخر العقد المذكور ضمرت النقاط الرئيسية فيه. وفي بداية الألفية الجديدة فقد المقاهي الرئيسية، الويمبي والمودكا والكافيه دو باري، واليوم هناك محاولة لاعادة احيائه عبر حانات السهر الليلي». ويتدارك «لكن هذه الحانات لا تعيد احياء فكرة الشارع على انه شانزيليزيه الشرق».
أما فاروق يعقوب الذي يملك حانة في الحمراء، فيعتبر ان «نظرية الطابع اليساري للحمراء غير صائبة، فالناس يأتون اليه لأنّه شارع واسع، فيه المقاهي والمطاعم والحانات ويفتح 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع. وهناك سهولة في ايقاف السيارات والكحول فيه متوافرة ويلبي رغبات فئات واسعة من الناس». ويضيف: «الحمراء يتميّز عن غيره بأنّه ليس شارعا سكانيا، وبأنّه واسع وكبير ويجمع المتناقضات».
لكن سبيتي يصرّ على ان «رواد الحمراء هم أبناء الشارع القدامى، اي أبناء مثقفي الشارع ويسارييه وثورييه، أبناؤه البيولوجيون والمعنويون. أما مونو فيستقطب شباناً لأنّ محاله تقدم الرقص، ولأنها على النمط الأجنبي الذي يراه الشباب في الأفلام والانترنت، فيما يستقطب الجميزة الجميع».
ويلاحظ هيثم شمص الذي يملك حانة اخرى أنّ «رواد الشارع ازدادوا اخيراً»، ويحار في تقدير السبب «الحمراء يفاجئك دائماً، فهو مكان عريق للسهر. وما يجب أن نسأل عنه هو لماذا تراجع الحمراء في السنوات الأخيرة وليس لماذا يزداد توهّجا اليوم».
«وحدة» في السهر
في المقابل، ولد شارع مونو قبل «مولد» قلب بيروت المسمّى بالـDOWN TOWN. كان ذلك في منتصف التسعينات، كاقتراح جديد لحياة ليلية بعيدا من روتين الصورة المسبقة عن حمراء الثقافة واليسار والعلمانية.
بدا مونو يومها قبلة الشباب من شرق بيروت وغربها، وشكل بديلاً من وسط العاصمة الذي كان قيد الانشاء. قصده الشباب المسيحيون من الشرق والشباب المسلمون من الغرب، فشكل «واحة» ليلية للقاء الاخر.
يقول عادل الذي يعمل في ركن السيارات في مونو، أنّ «أعمار الذين يسهرون هنا لا تزيد على 22 أو 23 سنة». وعن عملهم وطبقتهم الاجتماعية يعلق «هؤلاء لا يعملون، انهم أبناء الناس الأثرياء جداً». ويضيف رافعاً يده الى ما فوق رأسه: «الناس الـ hi انهم الاغنياء من جماعة PAPI وMAMI».
هذه الصورة النمطية يرفضها سيباستيان سوبرة مدير احد المطاعم مؤكداً أن «مونو لجميع الأعمار، وفي مطعمنا ليس هناك أعمار صغيرة، بل انّ معظم زبائننا من الكبار في السن، ياتون ليتناولوا العشاء والمشروبات الكحولية».
ويوافق بهاء بركات الذي يدير واحدة من حانات مونو على ان «ثمة انواعا مختلفة من الزبائن، فمن الفقير الذي يسهر ليلة في الأسبوع الى الميسور الذي يسهر 3 أو 4 أيام الى من يواظب على السهر في شكل يومي. انه اذا شارع للجميع».
أما سبيتي فيرى أنّ «مونو هو الشارع الذي أخذ ارث الكسليك (كسروان) بعد انتهاء الحرب. فقد جمع مسيحيين يريدون المجيء الى بيروت والسهر فيها مع مسلمين يريدون الخروج من الحمراء. وقد فاجأت أبنيته التراثية الرواد وخصوصاً انه كان واحداً من خطوط التماس ابان الحرب».
في نهاية التسعينات بدأ نجم الجميزة يلمع أفق بيروت. اقترح الشارع السكاني الذي يتميز بطابعه التراثي على شباب ما بعد الحرب فكرة البار الأوروبيّ الضيّق، والسهر التسكّعي من حانة الى أخرى.
داني، وهو سائح أجنبي من الدنمارك، يرى أنّ «الأبنية التراثية ونوعية المطاعم الجيدة هي ما شدّني الى هذا الشارع». وتعلق صديقته ماري: «هنا، يمكنك أن ترى الكثير من الناس السعداء، هذا هو سحر الشارع».
أما طوني العامل في احدى الحانات فيقول عن الزوار: «من كل الطبقات الاجتماعية، لكنّ معظمهم موظفو مصارف وأصحاب شركات ومحال، وأعمارهم تراوح بين 25 و40 عاماً».
ويوضح سبيتي ان «الجميزة بدا كبديل من مونو، لأنّه شارع مختلف يجذب الآتين الى مونو والحمراء والبترون (الشمال). فكلّ من طالبي السهر في الأماكن المذكورة يجد في الجمّيزة المكان الذي يريده، في شارع تراثي عمرانياً. وجزء من السحر أنّ الحانات هنا تجرّ المتسكّع من احداها الى الاخرى».
وللشارع مناصروه المتعصّبون على غرار جاد الذي يرفض فكرة أن يسهر في الحمراء: «في الحمراء لا أسهر، وفي مونو ما عدت أسهر. كنت أسهر في مونو لكن الشارع بات الآن مليئاً بالأولاد. الجميزة هو الشارع الوحيد الحقيقي في بيروت».
وبعد… الأحداث التي عصفت بلبنان وبيروت في السنوات الأخيرة ساهمت في تراجع حضور مونو بسبب تحوّل الوسط القريب منه ساحة «معارك مليونية» واعتصامات احتجاجية. ويقول مصدر في وزارة السياحة ان عدد الحانات والمطاعم فيه تراجع في شكل كبير.
اما الجميزة فتحاصره الاعتراضات كونه شارعاً سكنيّاً، يعيش خضّات قضائية بعد الخضّات الأمنية التي عصفت به كما بالبلد. لذا، تراجع دوره، رغم أنّ عدداً من الحانات التي أقفلت قبل أسابيع عاودت عملها.
ويبقى الحمراء الذي يستعيد عافيته، مع عدد مطاعم ومقاه وحانات يزيد على المئة. لكنّ جولة في هذه الشوارع الثلاثة تعطي انطباعاً ان كلاً منها يكمل الاخر. انها «بورصة سهر» ترتفع اسهمها وتتراجع لكنها لا تموت.
المفضلات