عليَّ من ذلك(1) بعض حدودك(2) ، وخالفت بعض أوامرك(3) ، فلك الحجّة عليَّ في جميع ذلك(4) ، ولا حجّة لي فيما جرى عليَّ فيه قضاؤك(5) ، وألزمني حكمك وبلاؤك(6).
وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي(7) على نفسي.. معتذراً نادماً منكسراً مستقيلا(8) مستغفراً منيباً(9) مقراً مذعناً(10) معترفاً، لا أجد مفرّاً ممّا كان منّي ولا مفزعاً(11) أتوجّه إليه في أمري، غير قبولك عذري وإدخالك إيّاي في سعة من رحمتك.
____________
1- بما جرى عليَّ من ذلك: بسبب قضائك وحكمك بأن أكون حرّ التصرّف في عمل الخير والشر.. لحكمة، وبسبب تزيين الشيطان لي الباطل والمذموم من المشتهيات، مع تفضّلك بتحذيري منه.
2- بعض حدودك: بعض حدود شريعتك، من الأوامر والنواهي، لأنّ أحكام الله، الإسلام حدود موضوعة لمصلحة المكلّفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها.
3- وخالفت بعض أوامرك: تفسير لعبارة (فتجاوزت بعض حدودك).
4- في جميع ذلك: في إنعامك عليَّ بامتلاك وسائل الحياة، وببيان وظائفي في الحياة، والقدرة على التصرّف (والاختيار لسلوك أيّ الطريقين من الخير أو الشر.. لحكمة) ، مع بيانك لي: انّ الخير في الخير والشرّ في الشرّ، وإنعامك عليَّ بالقدرة على الترجيح والقدرة على عدم اتباع الشيطان وطريق الشرّ.
5- ولا حجّة لي فيما جرى عليَّ فيه قضاؤك: لأنّ مخالفة بعض أحكام الله إن وقعت من الإنسان، وقعت باختياره، بسبب تزيين الشيطان له، حيث لم يستعذ بالله منه، ولم يحترس منه ومن حبائله، وقد حذّرنا القرآن الكريم: (إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) من آية 6 من سورة فاطر، (وقال الشيطان لمّا قضى الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) من آية 22 من سورة إبراهيم.
6- بلاؤك: امتحانك لي.
7- إسرافي: تجاوزي الحدّ.
8- مستقيلا: سائلا العفو عن أخطائي.
9- منيباً: راجعاً إليك.. مقبلا بالقلب بالتوبة.
10- مذعناً: منقاداً خاضعاً.
11- مفزعاً: ملجأً.
اللّهمّ فاقبل عذري وارحم شدّة ضري، وفكّني من شدّ وثاقي(1) ، يا ربّ ارحم ضعف بدني ورقة(2) جلدي ودقة(3) عظمي.
يامن بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبرّي(4) وتعذيتي(5)..، هبني لابتداء كرمك(6) وسالف برك بي(7) ، يا إلهي وسيّدي وربّي، أتُراك معذبي بنارك بعد توحيدك(8) ، وبعدما انطوى(9) عليه قلبي من معرفتك، ولهج(10) به لساني من ذكرك، واعتقده ضميري من حبّك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك(11).
هيهات(12).. أنت أكرم من أن تضيع من ربيته، أو تبعد من أدنيته(13) ، أو تشرد من آويته(14) ، أو تسلّم إلى البلاء من كفيته ورحمته.
وليت شعري(15) يا سيّدي وإلهي ومولاي.. أتسلّط النار على وجوه خرت(16)
____________
1- فكّني من شدّ وثاقي: خلصني من ذنوبي التي هي كالوثاق تقتلني، والوثاق ما يشدّ به قيد وحبل ونحوهما.
2- رقة: "رق" ضد "ثخن".
3- دقة: "دق" ضد "غلظ".
4- برّي: اللطف والشفقة بي والاتّساع في الإحسان إليَّ.
5- تغذيتي: منذ كنت نطفة، فعلقة، فمضغة، فجنيناً، فمولوداً، إلى أوان البلوغ والتكليف واكتساب المعارف وتحصيل الكمالات النفسانية في أحسن تقويم ذي الأيدي والقوى والقدرة.
6- هبني لابتداء كرمك: سامحني اغفر لي ذنوبي هبةً منك واستمراراً لإكرامك إيّاي ابتداءً.
7- سالف برّك بي: سابق إحسانك إليَّ.
8- أتراك معذّبي بنارك بعد توحيدك: هل تأمر بعذابي بنار جهنّم بعد توحيدي إيّاك؟.. بعد اعترافي بأ نّك الخالق الواحد لا شريك لك؟... "أتراك" تأتي بمعنى: هل ترى وتظن.
9- انطوى: اجتمع.
10- لهج: نطق، ملازماً ومثابراً.
11- خاضعاً لربوبيتك: خاضعاً لك حال كوني عارفاً أ نّك ربِّ لي ولسائر الموجودات.
12- هيهات: بُعيدُ ذلك.
13- أدنيته: قرّبته إليك.
14- من آويته: من ضممته إلى رحمتك وحمايتك.
15- ليت شعري: ليتني شعرت، علمت، ليت علمي حاضر.
16- خرت: انكبت على الأرض.
لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك(1) صادقة(2) ، وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك(3) محقّقة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة(4) ، وعلى جوارح(5) سعت إلى أوطان تعبدك(6) طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة(7)؟
ماهكذا الظنّ بك، ولا اُخبرنا(8) بفضلك عنك(9) يا كريم، يا ربّ. وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء(10) الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أن ذلك بلاء ومكروه، قليل مكثه(11) ، يسير بقاؤه، قصير مدّته..
فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدته، ويدوم مقامه، ولا يخفّف عن أهله، لأ نّه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك(12) وسخطك(13) ، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض(14)..
____________
1- بتوحيدك: بتوحيدها إيّاك، بأ نّك خالق الكون وحدك لا شريك لك.
2- صادقة: أخرج توحيد أهل النفاق، الذي هو الإقرار باللسان فقط.
3- بإلهيتك: بأ نّك إله الكون وحدك لا شريك لك.
4- خاشعة: ذليلة مستكينة لك.
5- جوارح: الجوارح: أعضاء الإنسان التي يكتسب بها، كيديه ورجليه.
6- أوطان تعبّدك: أماكن عبادتك.
7- مذعنة: خاضعة 8- ولا اُخبرنا: ولا هكذا اُخبرنا.
9- بفضلك عنك: جاء في القرآن الكريم: (قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم) الآية 53 سورة الزمر، إنّه ـ سبحانه ـ غافر الخطيئات، قاضي الحاجات، واهب العطيات، عطوف رؤوف، أرحم الراحمين.
10- بلاء: مصائب.
11- قليل مكثه: قليلة إقامته ودوامه.
12- انتقامك: مجازاتك المذنبين على مخالفتهم لشريعتك ـ التي بها سعادتهم ـ.
13- سخطك: السخط، الغضب، وتكرار المعاني المتقاربة بألفاظ متعدّدة هنا للتأكيد.
14- وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض: كما تقول: وهذا ما تهتزّ، تتزلزل له السماوات والأرض، بيان لِعِظَم آثار غضبه وانتقامه وسخطه ـ سبحانه ـ، وقيام السماوات والأرض: استمساكهما واستمرارهما مستقرين حسب قوانين الطبيعة ونواميسها بأمره ـ تعالى ـ.
يا سيّدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل، الحقير(1) المسكين(2) المستكين(3).
يا إلهي وربّي وسيّدي ومولاي، لأيّ الاُمور إليك أشكو؟ ولما منها أضجُّ(4) وأبكي؟ لأليم العذاب(5) وشدّته؟ أم لطول البلاء(6) ومدته؟
فلئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت بيني وبين أهل بلائك(7) ، وفرقت بيني وبين أحبائك(8) وأوليائك(9).. فهبني(10) يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي.. صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك(11)؟ وهبني صبرت على حر نارك(12).. فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك(13)؟ أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟
فبعزتك يا سيّدي ومولاي اُقسم صادقاً.. لئن تركتني ناطقاً(14) لأضجّن إليك بين
____________
1- الحقير: الصغير القدر الذليل.
2- المسكين: الفقير السيّىء الحال.
3- المستكين: الخاضع الذليل.
4- أضجّ: أصيح وأنا في حالة خوف.
5- لأليم العذاب: للعذاب الموجع الشديد.
6- البلاء: المحنة والشدّة.
7- أهل بلائك: أهل المصائب المعذّبين.
8- أحبّائك: محبّيك. وحبّ العبد لله أن يطيعه ولا يعصيه.
9- أوليائك: أتباعك مطيعيك.
10- فهبني: فاحسبني واعددني.
11- فِراقك: فراق رحمتك والمقام الذي ترضاه. فراق أحبائك وأوليائك.
12- نارك: نار جهنّم.
13- إلى كرامتك: إلى محال كرامتك ولطفك، الجنّة.
14- ناطقاً: ورد: أنّ للعباد يوم القيامة مواقف، يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض، فيختم على أفواه المجرمين حين شهادة أيديهم وأرجلهم، ثمّ تُطلق. (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً) الآية 108 من سورة طه. (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) الآية 65 من سورة يس.
يتبع >>>
المفضلات