*الطائفة الثانية:

قوله تعالى:{وهَلْ أَتَاك نَبَأُ الخصْم إذ تَسَوَّرُوا المحرَابَ*إذ دَخَلُوا على داود فَفَزِعَ منهم قالوا لا تَخَف خَصْمانِ بَغَى بعضُنا على بعضٍ فَاحْكُم بيننا بِالحق ولا تُشْطِط واهْدِنا إلى سواء الصراط*إنَّ هذا أخي له تسْع وتسعون نعْجَة ولِي نعجة واحدة فقال أَكْفِلْنِيها وعَزَّنِي في الخطاب*قال لقد ظَلَمَك بِسُؤال نعجتك إلى نعاجه وإنَّ كثيراً مِن الخلطاء لَيَبْغِي بعضُهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ مَا هم وظَنَّ داودُ أنما فَتَنَّاه فاسْتغفَر رَبَّه وخَرَّ راكعًا وأناب*فغَفَرْنا له ذلك وإنَّ له عندنا لَزُلْفَى وحسن مآب * ياداود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحْكُم بين الناس بِالحق ولا تَتَّبِع الهوى فيُضِلّك عن سبيل الله إنَّ الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}(سورةص26،21).

والكلامُ كَمَا في سابقه،فلم يَكُن اسْتِغفارُ داود عليه السلام عن ذَنْبٍ مَوْلَوِيٍّ يُعَاقَب عليه لو لم يَستغفِر،لِمَا مَرَّ مِن الدليل العَقْلِي على إثباتِ العصمة،ولِمَا يُنَاسِب بَلاغَةَ القرآنِ الكريم واسْتِعْمَالَ ذلك مِن قِبَل رَبِّ العالمين، حيث أنه تعالى بَعْد أنْ سَرَدَ قصةَ داود -مع المتخَاصِمَيْن واسْتِغْفَارَه إِيَّاه وغُفْرَانَه سبحانه- عَقَّبَ ذلك بِالمنْزِلةِ العظيمة والوظيفة الجسيمة لداود،-ولِذلك- جَعَلَه خليفتَه في الأرض،وأَمَرَه أنْ يَحْكُم بين الناس بِالعدْل.مَنْزِلة الخلافة والتمثيل عن الله تعالى في أَرْضِه منزلةٌ لا يَنَالُها أَيُّ أحَدٍ،بل هي لِخَاصَّتِه جل وعلا..فكيف يَسْتَسِيغ العقلُ أو العَارِفُ بِالعربِيَّة –أَقَلُّها- أنْ يَمْتَدِح اللهُ سبحانه داودَ بِهذا التَّنْصِيب الخطير بعد ذِكْرِه المباشر لِلتَّمَرُّدِ والعصيان المُدْعَيَيْنِ لِداود لأنه اسْتَغْفَر رَبَّه؟!

*الطائفة الثالثة:

قوله تعالى:{وإذ نادى ربُّك موسى أن ائْتِ القومَ الظالمين*قومَ فرعون ألا يَتَّقُون*قال ربي إني أخاف أن يكذبون*ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون*ولهم عَلَيَّ ذنبٌ فأخاف أن يقتلون*قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون*فَأْتِيَا فرعونَ فَقُولا إنا رسولا رب العالمين* أن أرسل معنا بني إسرائيل*قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين*وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين*قال فعلتها إذاً وأنا مِن الضالين*ففررْتُ منكم لما خفتُكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني مِن المرسلين}(الشعراء 21،10).

قَوْلُ نبِيِّ الله موسى عليه السلام:{لهم علي ذنب}يعني:بِنَظَرِهم أَنَّ ما فَعَلْتُه مِن قَتْلِ ذلك القِبْطِي الكافر ذَنْبٌ فسَيَقْتُلُوني عليه،بل إنَّ فرعون تَمَادَى وعَبَّرَ عن هذا الذنب أو عنه وعن خُرُوجِ موسى عليه بِالكُفْرِ،فقال اللهُ تعالى على لسانه:{وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين}وجَارَاه موسى عليه السلام، فقال له بِأَنَّنِي ضَالٌّ في رأيكم إذاً؟! ولكنَّ الله ربي جَعَلَني حاكمًا وخليفةً في الأرض ورسولاً إلى الناس أجمعين.

إذن لا يُعقل أنْ تكون هذه الواقعة مُشْتَمِلَةً على تَمَرُّدِ موسى بقوله:{وأنا من الضالين}،أو تكون مشتملةً على خَطَأ في الموضوع الخارجي..قَتَلَ ذلك القبطيَّ بِوَكْزِه،فهو يَسْتَحق القتلَ،وموسى وإنْ لم يَقْصد قتْلَه إلا أنَّ ضَرْبَتَه كانت في محلِّها، وإلا لَمَا ناسَبَ موسى أن يَرُدَّ على فرعون بِأَنه بَعْد هذا الخطأ والضلال -في نَظَر فرعون- وَهَبَهُ اللهُ الحكمَ والرسالة!

*الطائفة الرابعة:

قوله تعالى:{و وهبنا لداود سليمان نعْم العبد إنه أَوَّاب*إذ عُرض عليه بِالعَشِي الصافنات الجياد*فقال إني أحْبَبْتُ حُبَّ الخير عن ذِكْر ربي حتى توارت بالحجاب*رُدوها علي فطفق مسحاً بِالسوق والأعناق* ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي مُلكاً لا ينبغي من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص* وآخرين مقرنين في الأصفاد*هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب*وإن له عندنا لزلفى وحُسْن مآب}(سورةص40،30).

في هذه الآيات الشريفة..عندما يُثْنِي اللهُ تبارك وتعالى على سليمان عليه السلام فَيَصِفهُ بِأنه ذو عبودية خالصة له سبحانه وبِأنه أَوَّابٌ إليه بِاستمرار..هذا قَبْلَ أَنْ يَذْكُر قِصَّتَه مع الجياد والخيول،ثم يَعُود بعْد سَرْدِها لِيَذْكُر منزلتَه لديه وحُسْنَ أَوْبَتِهِ إليه..كلُّ هذا ويَأْتِي البعضُ لِيَدَّعِي بِأَنَّ قوله تعالى في هذه القصة على لسان سليمان عليه السلام {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}تَصْرِيحٌ بِأَنَّ سليمان قَدَّمَ حُبَّه لِلجيادِ على ذكر الله تعالى..إنَّ هذا لا يُنَاسِب سِيَاقَ سَرْدِ الله تعالى لِلقصة،والثَّنَاءَ الذي حَفَّهَا مِنْ طَرَفَيْها!

ثم لو كان سليمان -والعياذ بالله- عاصيًا فإنه وإِنِ اسْتَغْفَرَ لَم يَتَجَرَّأ مباشرةً بِطَلَبِ المُلْكِ الذي لا يَنْبَغي لأَحَدٍ مِن بعده؟! إنَّ هذا لا يُحتَمَل مِن مؤمنٍ واعٍ مِن عامّةِ الناس،لِمَا فِيه مِن قلَّةِ الاستحياء مِن المَعْصِيِّ- ادِّعاء-.ألا تذكرون قصةَ ذلك العبد الصالح الذي -بعد أنْ خالَفَ مولاه تعالى- سَجَدَ أربعين يوماً دون أنْ يَطْلُبَ مِن الله تعالى أَدْنَى شيءٍ،حياءً منه،فكيف بِعَاصٍ -حسب الادِّعاء- يَطْلُب المُلْكَ كله بعْد تَوْبَتِه مباشرة؟!

*الطائفة الخامسة:

قوله تعالى:{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم*لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم*فاجتباه ربُّه فجعله من الصالحين}(القلم50،48).

وقوله تعالى:{وإن يونس لمن المرسلين*إذ أبق إلى الفلك المشحون* فساهم فكان من المدحضين*فالتقمه الحوت وهو مليم*فلولا أنه كانمن المسبحين*للبث في بطنه إلى يوم يبعثون*فنبذناه بالعراء وهو سقيم*وأنبتنا عليه شجرة من يقطين*وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}(الصافات148،139).

لم يَكُن النبيُّ يونس عليه السلام عاصيًا أبدًا،وفَحْوَى الكلامِ في هذه الآيات مِن هذه الطائفة الخامسة يَأْبَى ذلك أيضًا،لأَنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ -بعْدَ سَرْدِ قصةِ يونس- بِأنه اجْتَباه،وذَكَرَ -بَعْدَ ذلك- بِأَنه أَرْسَلَه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون (1) فلا يُنَاسِب المقامُ عصيانَ النبيِّ يونس أبدًا*.

ـــــــــــــ

(1)سواءً كان يونس عليه السلام قد أُرسِل إلى غير قوْمِه الأولين -على قوْلٍ- أو أنه أُعِيدَ إرسالُه إلى نفْس قوْمِه كما هو ظاهر الآيات الكريمة كما هو تعبير الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره(الأمثل).

*لِلاستزادة:

أ– الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل.للفقيه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.دار إحياء التراث العربي.

ب– عصمة الأنبياء في القرآن الكريم.للمحقق الكبير الفقيه الشيخ جعفر السبحاني.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما بقيته في العالمين إمام الزمان عجل الله فرجه.

سلمان