دلالَةُ حديث الغدير

(المَوْلَـى)هنا بمعنى الأَوْلَى بالتَّصَرُّف،ومِنْ ضِمْن مَا يَدُلُّ على ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وآله:(أَوْلَى بالمؤمنين مِن أنفسهم).ولا يمكن أنْ نَعْتَبِر(مَوْلَى كلِّ مؤمن) بمعنى ناصِر كلِّ مؤمنٍ ومُعِينه وغير ذلك مِن أمثال هذه المعاني–كما فَسَّرَه بعضُ مَنْ أَرَادَ صَرْفَ الولاية عن الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه-، فالمعنى المُتَعَيِّن هو ما ذكرنا، والشَّاهِدُ والقَرِينَةُ هو تَعْبِيرُ النبي صلى الله عليه وآله بأنه أوْلَى بالمؤمنين مِن أنفسهم، أي أَوْلَى منهم في التصرف في أنفسهم،فلَه الولايَةُ المُطْلَقَة عليهم،وكذلك الإمام عليّ عليه الصلاة والسلام،لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله رَتَّبَ إصْدَارَه أوْلَوِيَّةَ الإمام عليٍّ على كلِّ مؤمنٍ بإقْرَارِ أصـحابه بأنه(ص) أولى بهم مِن أنفسهم،فَبِمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله حكيمٌ بَلِيغٌ فَالمُنَاسِب أنْ تكون نتيجة(مَن كان النبيُّ مولاه فَعَلِيٌّ مولاه،ومعنى المَوْلَوِيَّة للإمام عليٍّ)أنْ تكون على طِبْقِ المُقَدّمات التي قَدَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وآله، وهي (أوْلَوِيَّة النبي بالمؤمنين مِن أنفسهم).وتَعَدِّي الأَوْلَوِيَّةِ في كلام الرسول-صلى الله عليه وآله–بالباء (بالمؤمنين)يَدُلَّ على أنَّ معنى(المَوْلى)و(الوَلِي)هو(الأولى)لأنه هو الذي يَتَعَدَّى بالباء،وليس لَفْظ الناصر والمُعِين وغيرهما.إذن مولوية الإمامِ عليِّ بن أبي طالب على المؤمنين مِنْ سِنْخِ ونَوْعِ مولويةِ النبي صلى الله عليه وآله على المؤمنين. هذا مضافًا إلى الكثير مِن الشَّوَاهِد والقَرَائن الحَالِيَّة و المَقَالِيَّة على أنَّ معنى(المَوْلَى)في هذ الأحاديث هو الأولَى بالتصرُّف، وبعبارة أخرى:هو الأولَى بِمَسْكِ زِمَام الرئاسة الدِّينية والدُّنْيَوِيَّة من غيره، بل أكثر مِن ذلك، فَلَه ولايةٌ عليكم مثل ولايتي عليكم،والنبيُّ صلى الله عليه وآله{ما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى*عَلَّمَه شديدُ القوى}.

ومِن هذه القرائن المَقَالِيَّة الدَّالَّة على أنَّ النبي صلى الله عليه وآله يُرِيد مِن كلامه هذا تَنْصِيبَ الإمام علِيّ بن أبي طالب خليفةً وأمِيرًا على المسلمين بعده:

تَحَدُّثُه قبل قَوْلِه[مَنْ كُنْتُ مولاه فعليٌّ مولاه]عن أنه كأنه دُعِيَ فأجَابَ، وإيصَاؤه بأنه مُخَلِّفٌ بعده الثَّقَلَيْـن كتابَ الله وعترتَه عليهم الصلاة والسلام، مِن الكلام الذي يَتَنَاسَب مع مَن يُرِيد أنْ يُوصِي بوصاياه0نعم،فالحديثُ عن الوصية لِمَن بعده بالإمارة مِن أوْلَوِيَّـات العاقِل العَادِي فَضْلاً عن نبيِّ الأمَّة الذي كُلُّه عَقْلٌ وحكمةٌ ودِرَايَةٌ،فكيف يَعْلَم بأنه يمُوت قريبًا ولا يُوصِي ويُخَلِّف بعده،مع عِلْمِه بِشِدَّةِ الخطورة التي يعيشها الإسلامُ في وقتِ وفاتهِ صلى الله عليه وآله،فالكَذَّابُون والمُتَنَبِّئون(مُدَّعُو النُّبُوَّة)قد كَثُرُوا،وكسرى وقيصر يَتَرَبَّصُانِ بالإسلام والمسلمين شَرًّا، واليهودُ الذين استعدُّوا لِمساعدة أيِّ حرَكَةٍ ضِدّ الإسلام، والمنافقون الذين يُخْشَى على الإسلام منهم أكثر مِن غيرهم،وهو عالِمٌ بهم، وأدَلُّ دليلٍ على عِلْمِه بذلك أحاديثُه الكثيرة عن الفِتَن العظيمة،وقد ذكَرَ البخاري وغيرُه رواياتٍ مستفيضة عن ذلك،وسأكتفي بهذه الرواية:

قال البخاري في صحيحه(ج8)مِن كتاب الفِتَن:عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:أَشْرَفَ النبيُّ صلى الله عليه(وآله)وسلم على أطم مِن آطام المدينة فقال:[هل تَرَوْن مَا أَرَى؟]،قالوا:لا.

قال:[فإني لأرَى الفتنَ تَقَعُ خِلالَ بيوتكم كَوَقْعِ القَطْر].

بالله عليكم أيها المؤمنون..هل يَتْرُك النبيُّ صلى الله عليه وآله الاسْتِخْلافَ و هو الذي يقول هذه الكلمات؟!

الفتنة تَنْزِل في بيوت المسلمين كَالمَطَر،ويَتْركهم يَتَنَاحَرُون؟!

كلا..كلا..لا يفعلها رسولُ الله صلى الله عليه وآله،بل الأمْرُ إلى الله تبارك وتعالى وهو العالِمُ،وهو مَن عَلَّم رسولَه بذلك فكيف يُهْمِلهم بلا رَاعٍ؟! وهو الذي{كَتَبَ على نفسه الرَّحْمَة}ولا يَأمُر رسولَه بِنَصْبِ أميرٍ لهم حتى لا تَقَع هذه الفِتَنُ؟!

فالصحيحُ أنَّ الله الرحيمَ أمَرَ نبيَّه الكريمَ صلى الله عليه وآله بِنَصْب الإمام علي بن أبي طالب خليفةً بعده،وقد نَصَّبَ النبيُّ عليًّا أمِيرًا بعده،صلى الله عليهما وآلهما، وأمَّا مَا يَحْدُث بعده مِن تَطْبِيقٍ أو عَدَمِه فهذا راجِعٌ إلى المُكَلَّفِين،فالمُهم أنه أَقَامَ الحُجَّةَ عليهم.

ومِن القرائن الحَالِيَّة التي تدل على أنَّ معنى(المولى)هو الخليفة والأولى بالتصرف:

ما يَنْقُلُه الكَثِيرُ مِن الصحابة والتابعين والمؤرِّخين في كيفية خطبة الغدير،فالجُمُوعُ الغفيرة التي تَعَدَّت المائة ألف حاجٍّ،وكان بعضهم قد سَلَكَ طَرِيقَ بَلَدِه مُبْتَعِدًا عن طريق المدينة المنورة،أهل العراق والشام وأهل مصر وأهل هجر،وغيرهم،وقد أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وآله بأنْ يُنَادَى على هؤلاء فَنُودِيَ عليهم ورجعوا وتجمَّعُوا في مَا يُسَمَّى بـ(غدير خم) بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان الحَرُّ شديدًا حتى أنَّ بعضهم كان يَضع بَعضَ ردَائه تحته و بعضَه الآخر عـلى رأسه،ونُصِبَ للنبي صلى الله عليه وآله مِنْبَرٌ تحت تلك الشجرات التي أَمَرَ بأن يُقَمَّ ويُكْنَس ما تحتها مِن أوساخ، وخَطَبَ تلك الخطبة العصماء وقال ما قال،ومع كلِّ ذلك يُقَال بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله أرَادَ أنْ يُبَيِّن فَضْلَ الإمام عليٍّ لِخِدْمَتِه و دفاعه عن الإسلام! ألا يكفي النبيَّ صلى الله عليه وآله أنْ يَفْعَل ذلك في غير هذه الظروف الشديدة؟! ثم إنَّ كُلَّ المسلمين يعرفون مَن هو عليٌّ فلا حاجة إلى التعريف زيادةً فليس ذلك مِن الحكمة إلا أن يكون القَصْدُ هو تَنْصِيبه لمقام الخلافة،وقد تَمَّ وللهِ الحمدُ رب العالمين.

وقال الحاكمُ في هذا الباب:أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي(قال)حدثنا عبدُالله بن أحمد بن حنبل(قال)حدثني أبي...عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: شَكَىَ عليَّ بنَ أبي طالب الناسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله،فَقَامَ فينا خطيبًا فسمعتُه يقول: [أيها الناس..لا تَشْكُوا عليًّا فواللهِ إنه لأَخْشَنُ في ذاتِ اللهِ،وفـي سبيلِ الله].

أقول:قال الإمامُ عليُّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام:(ما أبْقَى لِي الحَقُّ مِن صديق). إنَّ أغلب الناس يريدون ما يشتهون وليس ما يُحِبّه اللهُ ورسولُه،فلا عَجَبَ إذا لم يَمِيلُوا إلى الإمامِ عليٍّ،لأنه لا يوافِق أطماعَهم.

*المستدرك(ج3)فضائل أمير المؤمنين علي:حدثنا أبو بكر...عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله قال:[أيّكم يَتوَلانِي في الدنياوالآخــرة؟] فقال لكلِّ رَجلٍ منهم أيتولاني في الدنيا والآخرة، فقال(كلُّ رجلٍ): لا.حتى مَرَّ على أكثرهم،فقال عليٌّ: أنا أتوَلاك في الدنيا والآخرة،فقال(النبيُّ صلى الله عليه وآله لِعليٍّ): [أنتَ وَلِيِّي في الدنيا والآخرة].

أقول:لو كانت الولاية هنا بمعنى الحُبّ والنُّصْرَة أو غير ذلك لَقَبِلَها هؤلاء أو بعضُهم على الأقل، ولكن لَمَّا كانوا يَعْلمون بأنَّ الولايـة أكبر مِن هذا المعنى، وأنها مسؤولية جسيمة وخلافة عظيمة نَرَى أنهم أَبَوْا ولم يقبلوا بها،وقَبِلَها الإمامُ عليٌّ عليه الصلاة والسلام،ونالَها بتوفيق الله تبارك وتعالى.

قال ابنُ حجر العسقلاني صاحِبُ كتاب(فتح الباري شرح صحيح البخاري) ج7ص61: وأمَّا حديث [مَن كنتُ موْلاه فعَـليٌّ موْلاه]فقد أَخْرَجَه الترمذيُّ والنسائيُّ وهو كثيرُ الطُّرُق جدًّا، وقد اسْتَوْعَبَها ابنُ عقدة في كتابٍ مُفْرَدٍ،وكثيرٌ مِن أَسانِيدِها صِحَاحٌ وحِسَانٌ. وقد رَوَيْنا عن الإمام أحمد(بن حنبل)قال:

مَا بَلَغَنا عن أَحَدٍ مِن الصحابةِ مَا بَلَغَنا عن عليِّ بن أبي طالب.