-
روايه (بيت من زجاج)..
بسم الله الرحمن الرحيم
((بيت من زجاج))
هذي الرواية نقلتها لكم من كتاب وتعبت بكتابتها وتعديلها
اتمنى تعجبكم وراح انزلها على اجزاء
وهذا ((الجزء الاول)) ....
وماتت أمي ..انتهت في ذلك اليوم التعيس القائظ من شهر ذي القعدة..ماتت تملأها
الأحزان ..تطفح نفسها بالتعاسة ..قالت لي والدموع تغرق وجهها الذي كان لايزال
جميلاً رغم مسحة الالم والمرض:
_ "منى" انا سأموت ...
صرخت بلوعة والشهقات تزدحم في صدري الصغير:
_ لا ..لايا أمي لن تموتي ..
ابتسمت رغم الدموع وهي تهتف :
_ منى أرجوك ياحبيبتي لا تقاطعيني.. انني أشعر بدنو أجلي ..
وصيتك أشقائك يامنى .. أنتِ الكبرى وليس لهم غيرك .. أنتِ
تعرفين والدك سامحه الله ..أخوكِ أحمد ، رغم كل شيء ، هو طفل بحاجة لحنان
ورعاية.. وشقيقتكِ الصغرى يامنى .. إنها ..
وتوقفت عن الكلام ..ثم اختلجت شفتاها بعنف..
وطفقت ترنو ببصرها إلى البعيد البعيد ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وقفت جازعة:
_ أمي ..أمي أرجوكِ لاتموتي.. أرجوكِ لاتتركينا ،أنا بحاجة إليك أكثر من أخوتي ..
أنا احبك ياأمي ..
أغمضت أمي عيناها ثم فتحتها من جديد ..
تألقت في عينيها نظرة غريبة لم أعهدها من قبل ..وقبل أن أنطق قالت بصوت قوي
متماسك لا أثر فيه لصوتها الواهن الذي كانت تحدثني به من قبل :
_ أين والدك يامنى؟
أجبتها بسرعة مشفقة :
_ انه ذهب إلى الطبيب ..
قالت بنفس الصوت القوي وكأنه ليس صوتها :
_ اذهبي واستدعيه حالاً
وما أن ابتعدت خطوات عن الحجرة ، وأنا أفكر في كذبتي الصغيرة التي خدعت
أمي بها بأن أبي ذهب لاستدعاء الطبيب ،حتى سمعت صرخة قوية تشق صمت
البيت الراقد في هدوء .. كانت الصرخة منبعثة من حنجرة أمي .. استدرت عائدة
إلى الحجرة ،وقلبي ينبض بجنون مخيف .. توقعاتي كانت تسبقني وخوفي
كان يسبق توقعاتي.. وما أن وصلت إلى السرير الذي ترقد عليه أمي حتى وجدتها
مسجاة على السرير جثة بدون حراك .. وفي وجهها راحة وطمأنينة سلبتها إياها
الحياة أعادهما لها الموت.
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
فقد ماتت أمي..
ودفنت أمي .. وامتلأ البيت بالمعزين والمعزيات والوافدين من مختلف مناطق
المملكة ..
وخلال أيام كنت لا أملك فيهما تفكيري إن فكرت فإني أتصورأمي واقفة في البيت
تستقبل المعزين والمعزيات..
ولكن من الذي مات؟!
أرى شقيقي أحمد طفل العاشرة ، والحزن يمزقه ومشاعر غاية في البشاعة تتصارع
في نفسه الغضة الطـاهرة يلعب مع الأطفال في فناء الدار وهو يستشعر نقصاً كبيراً
يمور في جوفه .. وفي لحظة ماأحسست بأنه لا يعي شيئاً مما يدور حولـه ،
ولا يدرك بأن أمه حبيبته الوحيدة قد ماتت .. ولكنني صحوت في إحدى الليالي
على نشيج خافت ، يمزق سكون الليل .. كان أحمد الصغير يحتضن أحد ثياب أمي
وهو يبكي بحرقة .. حرقة لاتتناسب مع وطفل صغير في سنـة .. تفجرت في نفسي
ينابيع الإشفاق. أسرعت أحتضنه وأبكي معه.. امتزجت دموعنا في يأس مرّ وحزن
عميقين لأفاجأ بأبي واقفاً على رؤسنا قائلاً في سخرية:
_ منى .. ألا تكفين عن البكاء والنحيب .. إن أمكِ كانت مريضة ومن الطبيعي
أن يموت المريض.. تماسكت بصـعوبـة كيلا أرد عليه .. ومن الذي أمرضها يا أبي
من الذي جلب لها المرض غيرك.. إنها لم تصب بهذا المرض اللعين إلا بعد أن سمتها
سوء العذاب ، وبعد أن أريتها النجوم في عز الظـهر .. كيف كانت ستتحمل نزواتك
وزواجاتك العابرة و إذلالك المستديم لها .. كيف كانت تتحمل انهيار وقلب البيت
إلى ساحة معارك
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وشتائم من كل نوع .. كيف كانت ستتحمل هذا النوع ضربك الدائم وطردك اياها أحيانا
وهي بلا سند ولا أهل ولا إنسان تلجأ إليه .. كيف كانت ستتحمل كل هذا دون أن تتعب
وتنهار وتصاب بهذا المرض اللعين الذي يقتل حامله ؟
إنك ياأبي قاتلها الحقيقي وليس مرض السرطان الذي نفقت منه..
ومضى أبي دون كلمة أخرى .. دون حتى أن يربت على كتفي المثقلتين بكم
من الأحزان ..
ألفيت شقيقتي الصغرى ابـنة السابعة المبتسمة أبداً الضاحكة اللاهية .. ألفيتها واجمة
ذاهلة تحدق في الجمع الغفير المقيم في بيتنا بنظرات فارغة بلا معنى ، وتنظر إلى باب
حجرة أمي المغلق بحسرة تفتت الأكباد ولا تبكي ولا تسأل .. أبداً لم ارها تبكي ولم
يطرق سمعي سؤالاً لها عن أمي الراحلة وكأن غيابها عن البيت هو أمر اعتيادي
مع أنه لم يحدث في بيتنا أبداً وحتى طوال فترة مرض أمي إن غابت عنا وهي
التي فضلت أن تعاني في بيتها وبين أولادها على أن ترقد في المستشفى بلا أمل ..
بلا أمل على الإطلاق .. أشغلني صمت شقيقتي ريم وإطراقها وانفرادها الطويــل
بنفسها بلا دمعة ولا تنهيدة
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
قررت أن اصارح أبي بما كان عليه من أمرها ، فهو يستحيل أن يلاحظ شيئاً
يخصنا نحن أولاده ..فهو مشغول بنفسه فقط ولا يهمه سواها ولا أنسى حينما
كانت أمي تحتضر، وذهبت لأخبره ،وأطلب منه استدعاء الطبيب ، كان يحادث
إحدى الفتيات عبر الهاتف.. صرخت فيه غير عابئة بهمسه وكأنني أنتقم لأمي:
_ أبي ..أمي إنها تموت ..
التفت لي بحدة وفي عينيه نظرة صاعقة كالتي أراها حينما كان يتعارك وأمي ..
أخافتني نظرته كدت أتراجع .. تذكرت وجه أمي الجميل وصفرة الموت تعلوه ..
تذكرت كلماتها الأخيرة عـن الموت وقربها الشديد منه .. هتفت بقوة :
_ أبي .. أرجوك .. أحضر الطبيب لأمي .. إنها توشك على الموت..
نظر لي بسخرية وهو يقول :
_ وماذا سيفعل لها الطبيب .. انها ميتة به أو بدونه ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وعاد مرة أخرى يهمس عبر الهاتف .. وكأنه لم يفعل شيئاً.. كأنه لم يقتلني برصاص
كلماته السامة التي طالما اخترقتني دون أن تصيبني بأذى مجسم من خيال أما كلمته
تلك فقد طعنتني بالصميم.
لكنني فكرت وقررت أن اصارحه بحالة شقيقتي المتردية ،فمهما تكن فهي ابنته
أولاً وأخيراً ويستحيل أن يتخلى عنها ..
وبدأ بيتنا يخلوا شيئاً فشيئاً .. ابتدا الأقارب ينسحبون الواحد تلو والآخر ..
كان آخرهم هو خالي الوحيد وزوجته اللذان يسكنان في قرية بعيدة نائية ..
قبل أن يخرج خالي همس في أذني :
_ هل ترغبين يامنى أنتِ وأخوتك أن تحلوا ضيوفاً عندي ولو لبعض الوقت ثم
التفت يرمق زوجته في خوف قبل أن يتابع :
_ ولكن تعرفين ياابنتي إن بيتنا مزدحم بالأطفال أعاننا الله عليهم ..
ثم أن ابيك في حاجة إليكِ في مثل هذه الظروف .. انتبهي لأبيك وأخوتك واعملي
كما كانت تعمل المرحومـة أمكِ..
كوني شمعة الدار..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وخرج خالي محدثاً فجوة عميقة داخل نفسي .. شمعة الدار، لقد انطفأت شمعة دارنا
ياخالي برحيل أمي ولن تضاء مرة أخرى أبداً..
فما أنا الا جزء من تلك الشمعة التي انتهت الى الابد ..
وخرجت زوجة خالي بعد أن دست في يدي نقوداً وهي
تقول:
_ أعرف أن والدك مقتر سامحه الله فانفقي من هذا المال على نفسك وعلى اخوتك ..
وأنتبهي لريم انها في حالة غير طبيعية ..
فعلا قد نحلت شقيقتي ريم نحولاً غير طبيعي ، تقعر وجهها وغارت عيناها وأصبحت
كالطيف تتحرك بهدوء وتسلل بهدوء بدوم أن نشعر بها ولا تأكل الا لماماً..
وما أن خلا البيت إلا مني وأخوتي حتى أطلت الحقيقة بوجهها البشع تترصدنا
وتحرقنا بنارها.. أن أمي غير موجودة .. غير موجودة على الإطلاق وقد ذهبت
لغير رجعة ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وخرج خالي محدثاً فجوة عميقة داخل نفسي .. شمعة الدار، لقد انطفأت شمعة دارنا
ياخالي برحيل أمي ولن تضاء مرة أخرى أبداً..
فما أنا الا جزء من تلك الشمعة التي انتهت الى الابد ..
وخرجت زوجة خالي بعد أن دست في يدي نقوداً وهي
تقول:
_ أعرف أن والدك مقتر سامحه الله فانفقي من هذا المال على نفسك وعلى اخوتك ..
وأنتبهي لريم انها في حالة غير طبيعية ..
فعلا قد نحلت شقيقتي ريم نحولاً غير طبيعي ، تقعر وجهها وغارت عيناها وأصبحت
كالطيف تتحرك بهدوء وتسلل بهدوء بدوم أن نشعر بها ولا تأكل الا لماماً..
وما أن خلا البيت إلا مني وأخوتي حتى أطلت الحقيقة بوجهها البشع تترصدنا
وتحرقنا بنارها.. أن أمي غير موجودة .. غير موجودة على الإطلاق وقد ذهبت
لغير رجعة ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
جبت أنحاء البيت وشيء داخلي يتمزق .. شيء لاأدري كنهه .. رأيت مكانها في
المطبخ .. تخيلتها وهي تطهو الطعام وتحادثني وتضحك على نوادري التي أحكيها
لها وأنا عائدة من المدرسة.. ثم تسألني في حنان:
_ أجائعة أنتِ يامنى ؟
وعندما تدخل ريم من المدرسة تضمها بين ذراعيها وتقبلها كثيراً، فقد كانت هي دلوعة
البيت .. تساءلت بمرارة وفي داخلي مايشبه الخواء .. من يضمك ياريم ويقبلك
عند عودتكِ من المدرسة.. من يشعركِ بحنان الأمومة التي فقدتيه ياحبيبتي
الصغيرة المسكينة.. مضيت أتجول في البيت ودموعي تحرق وجنتي.. وقفت
أمام حجرة الراحلة .. قبضت المفتاح بيدي .. ترددت بالدخول .. لابد من أن
أطوي ثياب المرحومة وأخفي ماأستطيع من ذهبها ومجوهراتها ..
فأبي سيبيع كل شيء فأنا أعرفه أكثر من أي شخص آخر .
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
يجب أن أنتهز هذه الفرصة وأحفظ للمرحومة حقوقها التي لم تحصل عليها في حياتها
.. ولو لمرة واحدة .. فأبي كان دوماً ينازعها في كل شيء ويدعي ملكية كل شيء
تتحلى به وتمتلكه بدءاً من ملابسها وحذائها وانتهاءً بحليها ومجوهراتها .. إنها لم
ترتاح معه يوماً..
شجاعة قوية واتتني على غير انتظار ، فقد كنت أخاف أن يسبقني أبي إلى هذه الغرفة
وينتهك حرمة المرحومة .. ولكنه لم يفعل حتى الآن .. ربما كان خائفاً من خيالها
أو ربما كان ينتظر الفرصة الملائمة ..
ودخلت.. دخلت رغم ارتعاشة هزت كياني بأسره ،حين وقع نظري على السرير الذي
لفظت أنفاسها الأخيرة ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
أخذت أجمع ثيابها ولكل ثوب ذكرى .. ولكل ذكرى معزة خاصة .. وبكائي يشتد
ونحيبي يزلزل أرجاء الحجرة الصغيرة .. بكيت كما لم أبكِ من قبل .. ومن بين
دموعي لمحت شقيقتي الصغرى ريم تدخل الحجرة ورائي في صمت وذهول وعيناها
تبرقان ببريق عجيب عجزت عن تفسيره .. درات في أنحاء الحجرة ونظرت أسفل
السرير وفوقه ثم هزت كتفيها الصغيرين بأسى وخرجت دون كلمة واحدة .. ولا
حتى سؤال .. والتفت لأجد شقيقي أحمد خلفي .. فقد جذبه بكائي .. وسألته من بين
دموعي:
_ أحمد .. ماذا تريد؟
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
هتف والدموع تغرق وجهه وتسيل على ثيابه :
_ لاأدري ماذا أفعل .. ولا أين أذهب .. أنا متعب يامنى ..
ضممته إلى صدري بقوة واهتزازات جسدي تحيطه بقـوة وتحاول أن تعوضه عن
الأمومة المفقودة .. الأمومة الحانية التي لا يعادلها شيء في الوجود ..
أمي ياحبة قلبي .. لماذا تركتني وأنا بحاجة إليكِ .. ولم أنم تلك الليلة .. مضيت
ساهدة أفكر ، وأتقلب من جنب إلى جنب يقض مضجعي شحوب شقيقتي الصغيرة
وتدهورها السريع المريع .. ألهذه الدرجة فقدت أمي .. لماذا لم تسأل ؟.. لماذا
لم تعبر عن حزنها والتياعها بالدموع .. لم لا تبكي حتى تجف عيناها ويهدأ قلبها
وتسكن نفسها .. لماذا أصبحت منطوية تعاف الكلام وتصد عن الطعام
وتمشي وترى وتنام بغير شعور ولا فكر وكأنها جثة تمشي على قدمين ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
قطع على سير لأفكاري أناتها الواضحة .. فقد تغير نومها منذ ماتت امي
ولم يعد نومها هادئاً ساكناً مريحاً كما كان .. بل كانت تئن طوال الليل وتتألم وتهمهم
بكلمات غير واضحة .. وعندما كنت أقترب منها وأصيخ السمع تتناهى إليّ دمدمة
مبهمة غير واضحة المعالم
تخاطب فيها شخص ما وتعاتبه وتناقشه وتلومه .. خمنت أنه طيف أمي الراحلة
كنت لاأملك من أمري شيئاً غير أن أدثرها باللحاف وأقرأ ماتيسر من القرآن
عند رأسها كما كانت تفعل أمي الراحلة ..
أمي .. وأناجيها في خيالي .. أطفالك أمانة في عنقي ، ولن أتخلى عنهم حتى الموت
ومجوهراتك في الحفظ والصون ، لن تمتد لهم يد إنسان غيرك ولا حتى أبي..
سأحتفظ بهم حتى يزينا جيد ومعاصم طفلتك المحبوبة ريـــم عندما تغدو عروساً
رائعة وسأقول لها إنهم هدية والدتكِ لزواجك ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ستفرح وستبكي وستضمني بحرارة
أفقت في الغد على حلم مفزع .. لم يفرحني رغم مظاهر الفرح التي رافقته ، فقد
كنت أدرك بالفطرة أن الفرح يعقبه حزن ودوما كنت أستشعر ذلك ولا زالت ذكريات
تلك الأيام السعيدة التي سبقت وفاة والدتي تطاردني حتى في المنام .. فقد صفت الحياة
الحياة فجأة من بعد عذاب وتحسنت صحتها كثيراً..الصحوة التي تعقبها الموت ..
وخفت آلامها بشكل ملحوظ .. تورد وجهها وتألقت عيناها وازدهرت السعادة في بيتنا
حتى أبي توقف عن العراك وإثارة المشاكل ، وكأنه قد عقد هدنة حربية لوقت ما
وغرض ما.. ومهما يكن غرضه فقد بدأ يتودد لأمي ويصحبنا في نزهات ورحلات ..
كانت الفرحة والبسمات تتردد في أجوائنا ونتنسمها مع أهوائنا .. ولكني كنت
خائفة بأعماقي .. وكان خوفي يزلزلني ويفسد عليّ فرحتي ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
كانت الضحكة كسكين تغمد في قلبي وتفجره .. تفجر صديد من الأحزان ..كانت
البسمة تهزني من الداخل وتثير جروح نفسي المهترئة .. كانت الكلمة الطيبة الحانية
تفزعني وكأنها سيل من الصفعات .. لم استمتع بسعادتنا المؤقته كما استمتع بها
أخوتي .. كانت الفرحة الطاغية تتألق في أعينهما الصغيرة والسعادة تطفح من
وجوههم النضرة .. وحبيبتي ريم كانت تتقافز جذلة بين حضن أمها الحبيبة الضاحكة
وبين والدها الذي يبتسم ابتساماته النادرة .. لكن سرعان ماتبدل كل شيء فجأة كما
بدأ فجأة .. فبعد أيام من الصفاء والنقاء صرخت أمي في جوف الليل البهيم
صرخة عميقة أفزعتني وأوقفت الدم جامداً في عروقي .. أسرعت إلى حجرتها
أتعثر بخوفي .. شلني المشهد
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
(( الجزء الثاني ))
شلني المشهد الذي رأيته ، فبقيت جامدة لا أريم أحدق بأبي وأمي وتلك المرأة الغريبة
.. وكانت أمي تصرخ وتصيح قائلة :
ـ أخرجها حالاً من حجرتي .. فليس معنى صمتي عن خطاياك أن تبلغ بها بيتي ..
وحجرتي بالذات .. هيا أخرجوا .. وأبي يرد قائلاً بسخريته المعهودة :
ـ إنكِ شيطانة كبيرة .. ألم أناولك بنفسي جرعةً كبيرةً من المخدر لتنامي كيف
استيقظتِ بهذه السهولة ؟ عجيب ..
وانكفأت أمي على السرير تبكي و تنتحب بمرارة وقد عاودها المرض وهاجمتها ذيوله
المندحرة ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
التفت أبي وقتها إلى تلك المرأة الأخرى قائلاً بحب وابتسامة كبرى تتوج شفتيه..
ابتسامة من ابتساماته النادرة :
ـ هيا ياحبيبتي .. لم أستطع اليوم أن أحقق رغبتك .. لكن اطمئني ستعودين مراراً
عندما تنتهي هذه العجوز المريضة ..
اختفيت بسرعة كيلا يراني أبي ويصب جام غضبه على رأسي .. وعدت بعد ان غادر
وتلك المرأة .. عدت وقد ازداد بكاء أمي ونحيبها .. ربت على كتفيها بحنان ..
التفتت إليّ ووجهها غارق بالدموع .. كان وجهها ضامراً ممصوصاً وعيناها تقطران
مرارة وأسى .. غاضت الدماء من وجهها والتي لونته في الأيام السابقة ولم يبق
إلا الشحوب وطائر الموت يلف حول رأسها إذاناً بالرحيل .. همست بصوت مبحوح:
ـ أمي ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ارتمت في أحضاني كطفل يعود إلى أمه بعد غياب .. ضممتها بحسرة وعيناي
تمتلآن بالدموع ..
كنت أسمع بنزوات أبي وعلاقاته المتعددة لكن لم اتوقع أن تصل به الجرأة إلى لهذا
الحد .. أن يصحب إحدى خليلاته لبيت الزوجية بل في نفس حجرة الزوجية والتي تتردد
فيه أنفاس الزوجة المريضة التي توشك على الموت هلعاً وحزناً وهواناً .. سمعت
أنفاسها تضطرب في أحضاني وجسدها الضئيل يرتعش بين يدي .. هتفت بهلع :
ـ أمي ..
ولم ترد .. ولم تجب على ندائي ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وخلال ساعة كان الطبيب إلى جواري بعد أن حقنها بمخدر قوي .. طلب مني ألا
أزعجها وأن أتركها تنام بهدوء حتى تستيقظ بنفسها .. وبدأت حالة أمي تسوء منذ تلك
الليلة حتى ماتت ..
وتركت كل شيء لأبي وعشيقاته ..
أسرعت إلى أبي و حلمي المفزع لا يزال يسكن ذاكرتي ويمزقني قلقاً .. حلمت بأن
شقيقتي الصغرى ريم عروس في ثياب الزفاف ، وقد تألقت جمالاً وبهاءً وروعةً كما لم
أرها من قبل ذلك أبداً .. وكنا جميعاً مبتهجين بزواجها حتى أمي .. نعم رأيت أمي في
الحلم وهذا هو الجانب المفزع منه .. فقد كانت هي التي تقود ريم من يدها وسط
المدعوين وتودعهم بابتسامة وكذلك كانت تفعل ريم! والأعجب في الحلم أن ريم كانت
عروساً وهي مازالت طفلة!
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
أعتصر الألم أحشائي وأنا أتقدم لأبي .. أقدم رجلاً و أؤخر الأخرى .. كنت أخاف أن
ينهرني ويسخر من أوهامي كعادته ولكن أخيراً استجمعت شجاعتي وتقدمت منه ببسالة
.. كان يتناول إفطاره بتلذذ واضح وهو يقرأ الجريدة ، وكأنما لم تقم جنازة في هذا
البيت منذ أيامٍ فقط وجنازة من؟ زوجته أم أولاده .. زفرت بقوة خلت معها بأن سيخرج
قلبي من أضلاعي ثم قلت بهدوء :
ـ أبي أريد محادثتك في أمر مهم ..
لم يلتفت إلي .. أستمر يقرأ الجريدة وهو يقول :
ـ ماذا عندك ؟ هيا اخبريني ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
جززتُ على شفتي بقوة لأمنع نفسي من البكاء .. فلِمَ هذا الجحود والنكران منك يا أبي
.. ألم ترعك أمي برموش عينيها طيلة حياتها .. ألم تهمل نفسها لأجلك .. لماذا
تستكبر أن تحزن عليها ولو لعدة أيام من أجل العِشرة والأولاد والحب الذي كان ..
أيتنهي كل شيء وبهذهِ السهولة المقيتة؟
كدتُ ألقي مافي جوفي اشمئزازاً .. لكن نظرةً من أبي أيقظتني من أفكاري المتلاطمة ..
لاحظت شرودي و صمتي الطويل .. فوضع الجريدة جانباً وهو يهتف :
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ـ ماذا تريدين يامنى ؟
ثبت عيني في عينيه وأنا أقول :
ـ ريم يا أبي .. إنها ليست على ما يرام ..
قاطعني بلهجة جافة :
ـ هذا شيء طبيعي لطفلة فقدت أمها ..
أهتز كياني وأنا اسمع جملته الأخيرة .. تجمعت الشهقات في صدري ، فلم أستطع إلا
أن أجهش بالبكاء .. أخذ أبي ينقر على الطاولة بأصبعه بعصبية واضحة ولما طال أمد
بكائي نهض واقفاً وسار بضع خطوات ليخرج .. لحقتُ بهِ ودموعي مازالت تسيل على
وجهي بغزارة.. قلت لهُ بصوت متهدج :
ـ إن "ريم" ليست طفلة عادية يا أبي .. أنت تعرف إنها ذكية وحساسة وقد كانت .. قد
كانت دلوعة أمي .. ثم إنها لم تبكِ منذ الحادث ولم تسأل .. أرجوك يا أبي أنقذها ..
إن "ريم" أمانة في عنقك ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
أجاب بعصبية :
ـ وماذا تريدين مني أن أفعل لها .. إني لا أستطيع أن أُعيد أمها إلى الحياة ..
تأوهت وكأن طعنة اخترقت أحشائي ولكنني تماسكت بصعوبة وواصلت المناضلة :
ـ أبي تستطيع أن تعرض "ريم" على طبيب .. إني خائفة من أجلها .. فقد يحدث لها
شيء ..
ران على وجههِ حزن غريب .. إذن فقد نجحت في استثارة عاطفة الأبوة من كيانه ..
نظر إلي ملياً ثم قال :
ـ أين هي الآن .. أحضريها لي ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ولم أكن بحاجة لإحضارها فقد أتت ريم .. دخلت الصالة بخطوات ملائكية وكأنها تطير
لا تمشي على الأرض ، ومعها لعبة ألقتها بإهمال على الأرض وكأنها قد سأمت كل
شيء وعافت نفسها أي شيء ..
قال أبي بصوته الجهوري :
ـ ريم تعالي إلى هنا ..
نظرت إلينا بعينين تائهتين زائغة وكأنها لا ترى.. لمح أبي اصفرار وجهها وجحوظ
عينيها والتعاسة المرتسمة على محياها الجميل وكأنه يراها لأول مرة :
اقترب منها وسألها :
ـ أتحبين بابا ياريم؟
نظرت إليه بذهول وهي تقول :
ـ أنا أحب ماما ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
أجابها بقسوة لا نظير لها :
ـ ماما ماتت يا ريم ..
قفزت من مكانها كالملدوغة وهي تهتف :
ـ لا .. لا .. ماما لم تمت .. لا .. لا ..
أسرعت إليها أضمها إلى صدري وأنا أقول بهدوء :
ـ اهدئي ياحبيبتي
فقد كانت أنفاسها تتسارع ووجيب قلبها يرتفع بجنون وهي تسألني :
ـ ماما ستعود .. صحيح ماما ستعود يامنى .. أمي ستعود ..
وتلتقي نظراتي بنظرات أبي المتسائلة وأنا أجيبها بحرارة :
ـ نعم ياريم .. ماما ستعود ..
وانظر إلى الطرف الآخر من الصالة إلى شقيقي أحمد وقد ترك كتبه وألعابه وانكفأ
على وجهه يبكي بحرقة وقد أيقظ هذا المشهد آلامه من جديد ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
اصطحبني أبي وشقيقتي " ريم" إلى المستشفى بعد ذلك الموقف بأيام .. كان المستشفى
مزدحماً ويعج بالغادين والرائحين وبعد انتظار دام عدة دقائق أعلنت الممرضة اسم
شقيقتي ريـم عبدالله الصالح .. بهتت الصغيرة وكأنها لم تسمع اسمها قبل اليوم..
نظرت لي بتسائل ملحّ .. امسكت بيدها الناحلة وسرنا وراء أبي لندخل حجرة الطبيب..
كانت ترتدي في ذلك اليوم ثوباً أبيض أضاف شحوباً إلى شحوبها الدائم فبدت كروح
هائمة حائرة لا تدري أي مستقر لها .. غاص قلبي بين ضلوعي وأنا ألمح
ابتسامتها العذبـة ولاح لي حلمي المرّ بجميع تفاصيله ، فهززت رأسي وكأنني
أطرد الذكرى من رأسي ودخلنا حيث استقبلنا الطبيب بابتسامة كبرى .. وبعد أن
انتهى الطبيب من فحص ريم قال لها باسماً :
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ـ هل تحبين أفلام الكارتون يا ريم ؟
ـ لا ..
ـ غير معقول .. إذن هل تحبين الآيس كريم ؟
ـ لا..لا
ـ ألا تحبين أي شيء من هذا .. إذن ماذا تحبين ؟
ـ أحب ماما ..
دهشة كبرى ملأت محيا الطبيب وهو يهتف :
ـ جميعنا نحب ماما .. وبالإضافة إلى حبنا لها نحب أشياء أخرى كالألعاب
والحلوى وغيرها ..
ـ كلا .. كلا .. لا أحب سوى ماما ..
قال الطبيب ومازالت الدهشة تلون وجهه :
ـ وأين ماما الآن ؟ هل هي في البيت ؟
تغيرت ملامح وجه الصغيرة .. ولكنها لم تبكِ وهي تجيب :
ـ كلا .. ولكنها ستعود ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
انتحى أبي بالطبيب جانباً وأخذا يتحدثان همساً وقد عكست عينا الطبيب شفقة عميقة
وجهها إلى ريم .. ثم قال الطبيب بصوت سمعناه جميعاً :
ـ إنها تعاني من ضعف حاد .. وأنيميا .. واعتقد إنها مصابة بانهيار عصبي ..
شهقت على الرغم مني .. ولم تحرك ريم ساكناً وكأن الأمر لا يعنيها أما أبي فإنه
تحول إلى الطبيب وهو بصوت بدا مهتزاً :
ـ دكتور .. هل بقائها في المستشفى ضروري ؟
اقترب الطبيب من ريم وهو يقول :
ـ هذا إذا رغبت ريم ..
صرخت الصغيرة وهي تتشبث بي :
ـ لا .. لا أريد البقاء في المستشفى .. أريد أن أعود إلى البيت ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
تكلم الطبيب مطولاً مع أبي ثم تحول إليّ قائلاً بصوت خافت :
ـ إن الدور الكبير في شفائها يقع عليكِ .. لن أبقيها في المستشفى ولن أحولها
إلى طبيب نفسي فربما تزداد حالتها تعقيداً .. إن علاجها الحقيقي هو بقائها في البيت
بين اخوتها وأبيها وإدراكها حقيقة وفاة أمها تدريجياً فإذا أيقنت من ذلك فإنها
ستبكي وهذا جيد واعتقد بأن هذا هو ماسيحدث .. وبالنسبة لضعفها العام فسأكتب لها
بعض الأدوية ستحسن حالتها كثيراً إن شاء الله .. وكما أخبرتكِ واجهيها بوفاة
والدتكم تدريجياً على مدى بضعة أيام حتى تعي هذه الحقيقة .. مفهوم ..
أومأت برأسي علامة الموافقة وأنا أقود "ريم" إلى الخارج بينما بقي أبي مع الطبيب
في الحجرة .. لفت أنظارنا في صالة الانتظار طفلة في عمر "ريم" تقفز وتمرح في
جذل.. اقتربت من ريم تتفرس ملامحها .. بدت ريم إلى جوارها كعجوز في السبعين
أثقلتها الهموم والأحزان .. لا حراكة ولا ابتسامة ولا حتى نظرات مرحة كتلك
الطفلة السعيدة .. وبعد لحظات صرخت الطفلة :
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ـ ماما .. أريد مثل هذا العقد ..
التفتت إحدى النساء الجالسات متسائلة :
ـ ماذا ياحبيبتي .. أي عقد تريدين ؟
أشارت الطفلة إلى جيد ريم قائلة :
ـ مثل هذا يا ماما ..
قالت الأم بطيبة خاطر :
ـ حسناً ياحبيبتي غداً سأحضر لكِ مثله وأحسن منه ..
عادت الطفلة للهو مرة أخرى وتقلص وجه ريم تقلصا مؤلماً وكأنها توشك على البكاء
ولكنها لم تبكِ إنما وقفت تنظر من خلال النافذة ولا ترى شيئاً ..
وعاد أبي بعد لحظات ليصحبنا إلى المنزل ومعه كم من الأدوية أثقل قلبي مرآها ..
فريم الحلوة الصغيرة التي لاتستطيع أن تكمل طبقها حتى النهاية هل تستطيع تناول
كل هذه الأدوية وبالتناوب ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وبدأت معها رحلة قاسية مؤلمة باءت بالفشل الذريع وخابت توقعات الطبيب المتفائلة
ولم يبق إلا السراب فقد بدأت ريم تذوي شيئاً فشيئاً وتساقطت ذوائب شعرها الطويل
حتى أنني اضطررت إلى قصه في النهاية ولم تعاتبني ولم تغضب .
نظرت إليّ نظرة طويلة وهي تقول :
ـ هكذا أجمل .. أليس كذلك؟
ابتسمت لها وفي حلقي غصة .. قالت بعد فترة صمت :
ـ هل يعجب أمي هذا ؟ هل تحب شعري هكذا ؟..
لم أستطع حبس دموعي فانطلقت أبكي بحرارة ..
أمسكت يدي بيديها الصغيرتين متسائلة :
ـ منى .. لماذا تبكين ؟ نظرت إليها من خلال دموعي .. رقيقة .. ناعمة .. حالمة ..
أيجب أن أصدمها بالحقيقة المروعة ؟
وماذا ستكون عليه حالها عندما أخبرها بالحقيقة ؟؟
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
(( الجزء الثالث ))
لا .. لا أيها الطبيب فلتهنأ هذه الطفلة المسكينة بحياة الخيال ، فهي أرحم لها بكثير
من دنيا الواقع البشعة .. ولكن الطبيب أخبرني وأكد لي بأن في هذا خطر على
حياتها وعلى صحة قواها العقلية .. ولكن كيف .. كيف أؤذي هذه الوردة اليانعة
وأحطمها بكلمة تخرج من فمـي .. وأي كلمة .. إنها ستقضي على حياتها ..
رباه ماذا أفعل ؟
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
عشت ليالي طويلة مؤرقة وأنا أفكر في طريقة أتدرج منها إلى إخبار الصغيرة
بالحقيقة الصارخة المؤلمة ولم أجد سوى التجاهل والنسيان ..
ـ لقد تأخرت أمي يامنى .. متى تعود ؟
أيقظني سؤالها من أفكاري المتلاطمة .. أيقظني حتى الذهول .. نظرت إليها
بكلتا عيني وكأني أحاول أن أمسك طرف خيط يقودني إلى قضيتي ..
ثم قلت لها فجأة :
ـ أمي لن تعود يا ريم ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وقفت لحظات مسمرة عينيها في وجهي وأرنبتا أنفها الدقيق تهتزان بشدة وشفتها
السفلى ترتجف وصدرها يعلو ويهبط .. بدت كمن تلقى صدمة عنيفة ولكنها لم تبكِ
قالت لي وقد بدا الإصرار على محياها :
ـ منى أنا سأذهب لها ..
صدرت مني صرخة ملتاعة عجزت عن كتمانها .. ولكنها تابعد وهي ترنو إلى البعيد:
ـ منى .. إني أرى أمي .. أراها هناك بعيداً في السماء .. إنها تناديني أن أذهب
إليها .. وأنا أريد أن أذهب .. أتمنى أن أذهب لألقي بنفسي بين أحضانها ..
أنا لا أستطيع الحياة من دونها ، يا منى .. اشعر بأن بيتنا ساكن مجرد من الحياة
من دونها يـا منـى اشعر بأن حجرتها مظلمة كئيبة وأن أبي يكرهنا ..
ـ منى إن ماما تناديني وأنا سأذهب ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
عاودني البكاء من جديد وعجزت عن كتم شهقاتي المزدحمة في صدري .. ضممتها
لتلتحم في أحشائي وكأنها قطعة مني .. قلت لها وكل جزء في كياني يبكي :
ـ لا تعودي لمثل هذا الكلام مرة أخرى يا ريم .. ستبقين إلى جوارنا .. أنا وأحمد
نحبكِ وفي حاجة لكِ ..
مسحت دموعي بيدها الصغيرة الرقيقة وهي تقول :
ـ لا تحزني يا منى .. ولا تبكي .. صدقيني سأرتاح وأنا هناك إلى جوارها ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
ولكن عديني يا منى بشيء ..
همست بعيون غارقة في الدمع :
ـ ماذا تريدين ياحبيبتي ؟
أجابت بنفس صوتي الهامس :
ـ أبي يا منى .. إنه مسكين .. حقاً نحن نشعر بأنه يكرهنا ولكنه لا يكرهنا ..
إنه يحبنا ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن حبه .. هكذا هم الرجال ..
نظرت إليها من خلال دموعي مندهشة ومبهورة .. هل هذه هي ريم الطفلة الصغيرة ..
إن كلامها أكبر من سنها بكثير .. لقد تحلى كلامها بالحكمة فجأة وكأنها ليست هي
التي تتكلم .. هل هي حمة الله أنزلها على قلب هذه الطفلة الصغيرة لتعبر عن أشياء
كنت غافلة عنها .. ولحكمة من الله أجهلها عبرت لي شقيقتي عن كل شيء
لأنها توشك على .. الموت ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
دوت صرخة في أعماقي وأنا أنظر إلى جمالها البريء الذي يوشك على الفناء ..
صغيرتي .. حبيبتي أرجوكِ أفيقي من أجلي .. ريـم لا تموتي ..
تبدلت أحوال ريم فجأة .. فقد غدت أكثر صحـة وحيوية وبدت أكثر نشاطاً وهي
تلهو مع أحمد بعد فترة طويلة من الشرود والانطواء ..
تنفس أبي الصعداء وكأنه قد انتزع من أعماقه حملاً كريهاً .. قال لي وهو يبتسم:
ـ ألا ترين كيف أصبحت ريم بفضل الأدوية .. ألا ترين كيف تورد خداها وعادت
الدماء إلى وجهها .. إنها الآن أفضل كثيراً فاستمري في مراعاتها ..
نظرت إلى أبي بإشفاق .. انه لا يعرف مايدور في داخلي من معركة قاسية لم استطع
حسمها حتى الآن .. لا يعرف بأن ريم قد رفضت تناول أي دواء .. وأصرت على
رفضها مهددة بمقاطعتي إذا أجبرتها على شيء وأضافت بأنها تعرف نفسها جيداً
وهي ليست بحاجة إلى دواء .. وقد أقلقني رواؤها المفاجئ أكثر مما أفرحني
وخلف في نفسي وجلاً عميقاً وخوفاً شديداً .. فربما اصبحت عروساً بالفعل بعد
أيام واختارها الله من بيننا لجواره .. اقترحت على ابي ذات يوم أن نغير المكان
لننسى الفاجعة وتتحسن صحة ريم وتستعيد توازنها النفسي حتى أحمد يحتاج
لهذه الاستراحة ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
هز أبي رأسه وكأنه غير مقتنع ..
ـ إن "ريم" قد تحسنت تحسناً مطرداً ولا تحتاج لأي تغيير .. أما أحمد فهو فاسد
مدلل لن يريحة سوى الضرب ..
هتفت باكية :
ـ وأنا يا أبي .. لا أستطيع أن أتحمل اكثر من ذلك .. إن في البيت فراغاً موحشاً
لا يملأه سوى أمي ..
ثم أجهشت بالبكاء وهيئة المفاجئة تزلزلني حتى النخاع ..
نظر إلي بتركيز ثم قال
ـ نعم سوف نسافر .. ولكن ليس الآن .. ليس الآن ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
وفي نفس الليلة .. قرب مطلع الفجر بقليل أيقظتني حركة بالقرب مني .. صحوت
جازعة أتلفت حولي .. نظرت صوب فراش ريم .. كأنها لم تكن في فراشها ..
أحسست بما يشبه الدوار ونبضاتي تتسارع بجنون .. أين هي .. ولماذا نهضت
من فراشها في هذا الوقت .. وماذا تفعل ؟
أخذت ابحث عنها في أرجاء البيت وقلبي لا يزال يخفق بقوة .. وأخيراً وجدتها
في الشرفة .. كانت رائعة الجمال كملاك نوراني شفاف .. بكامل صحوتها وحيويتها
وبهائها وقد أضفى عليها القمر المكتمل هالة من النور يصعب وصفها .. تماماً
بدت كعروس تزف إلى السماء .. شعرت بغصة هائلة في حلقي وأنا أسألها :
ـ ريم .. لماذا نهضتِ من فراشك .. هل تريدين ماء ؟
ابتسمت برقة وكشفت الابتسامة عن أسنانها الصغيرة كحبات من اللؤلؤ المنضود ..
-
رد: روايه (بيت من زجاج)..
قالت بهدوء وبراءة :
ـ إنني أتطلع إلى السماء ..
وقبل أن أنطق .. تابعت بصوت عذب .. عذب لدرجة هائلة تبعث على
الخوف والرهبة ..
ـ إنني أرى ماما يا منى .. إنني أراها تناديني في السماء ..
لم أستطع السيطرة على نفسي فقاطعتها وقلبي ينقبض بشدة :
ـ ريم .. كفى عن هذا الهراء وهيا إلى النوم .. تلفحي جيداً بدثارك وأبكي إن شئتِ
بل أبكي حتى لو لم تشائي فإن في البكاء عزاء .. وفي العزاء راحة للنفس المكلومة ..
ثم اقتربت أهزها بشدة :
ـ أبكي يا ريم .. انتحبي ياحبيبتي .. انتزعي دموعكِ اللؤلؤية من أعماق نفسك
وابكِ أمكِ الغالية يا ريم .. إن أمكِ ماتت ويجب أن تبكيها وتنتحبي حتى تنضب
دموعك .. أبكي يا ريم .. أبكي ..