جبريل عليــه الســـلامـ
و تمرّ الأعوام و يبلغ أبو طالب من العمر سبعين سنة ، و كان عمر سيدنا محمّد أربعين عاماً ، و كان يذهب إلى غار حراء كعادته كلّ عام .
و في ذلك العام هبط الوحي من السماء و سمع سيدنا محمّد هاتفاً يقول له :
ـ اقرأ ! أقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ و ربّك الكرم ، الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم . . .
ثم قال : يا محمّد! أنت رسول الله و أنا جبريل .
و عاد محمّد من غار حراء يحمل معه رسالة السماء .
فآمنت خديجة زوجته ، و آمن ابن عمّه علي بن أبي طالب .
و ذات يوم و عندما كان سيدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) يصلّي و خلفه علي ، جاء أبو طالب فقال بعطف :
ـ ماذا تصنعان يابن أخي ؟
فقال النبي ( صلى الله عليه و آله ) :
ـ نصلي لله على دين الإسلام .
فقال أبو طالب و عيناه تشعّان رضىً :
ـ ما بالذي تصنعان بأس . ثم قال لابنه علي :
ـ يا علي الزم ابن عمّك . . انّه لا يدعوك إلاّ لخير .
في منزل النبي ( صلى الله عليه و آله )
و بعد مدّة هبط جبريل يحمل له أمر الله " و انذر عشيرتك الأقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " .
و أمر رسول الله عليّاً و كان عمره يومذاك عشرة أهوام أن يدعو له عشيرته أي بني هاشم ، و جاء أبو طالب و أبو لهب و غيرهما .
و بعد أن تناول الجميع الطعام قال سيدنا محمّد :
ـ ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتكم به . لقد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة . .
ثم عرض عليهم دين الإسلام .
نهض أبو لهب و قال بحقد :
ـ لقد سحركم محمّد .
فقال أبو طالب بغضب :
ـ اسكت ما أنت و هذا .
و التفت إلى سيدنا محمّد و قال :
ـ قم و تكلّم بما تحبّ و بلِّغ رسالة ربّك فأنت الصادق الأمين .
و عندها نهض سيدنا محمّد و قال :
ـ لقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني ( ينصرني ) على هذا الأمر فيكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم بعدي .
فسكت الجميع .
فاندفع علي يقول بحماس الشباب :
ـ أنا يا رسول الله .
و فرح النبي و عانق ابن عمّه الصغير و هو يبكي .
نهض بنو هاشم و كان أبو لهب يقهقه ساخراً و يقول لأبي طالب :
ـ لقد أمرك محمّد أن تسمع لابنك و تطيع .
و لكن أبا طالب لم يكترث له بل نظر إليه غاضباً .
و خاطب ابن أخيه بعطف :
ـ امض لما أمرت به ، فو الله لا أزال أحوطك و أمنعك .
و ينظر سيدنا محمّد إلى عمّه بتقدير فهو يشعر بالقوّة مادام سيد مكّة إلى جانبه .
الناصر
و بالرغم من ضعف الشيخوخة فقد وقف أبو طالب بقوّة يدافع عن رسالة محمّد ، و كان في الخط الأول في الصراع مع مشركي قريش .
و يدخل عدد كبير من أهل مكّة في دين الله ضاربين عرض الجدار عبادة الأوثان و الأصنام و تهديدات جبابرة قريش .
و ذات يوم جاء زعماء المشركين إلى أبي طالب و كان طريح الفراش و قالوا بغيظ :
ـ يا أبا طالب ! أكفف عنّا ابن أخيك ، فانه قد سفّه أحلامنا و سبّ آلهتنا .
و يحزن أبو طالب من أجل قومه لأنّهم لا يريدون الإصغاء إلى صوت الحقّ : فقال لهم :
ـ أمهلوني حتى أُكلّمه .
و أخبر أبو طالب سيدنا محمّدا بما قاله زعماء قريش ، فقال النبي ( صلى الله عليه و آله ) باحترام :
ـ يا عم ! لا أستطيع أن أعصي أمر ربّي .
فقال أبو جهل و هو أكثرهم حقداً :
ـ سوف نعطيه كلّ ما يريد من الأموال بل نجعله ملكاً علينا إذا شاء .
فقال النبي أنا لا أُريد شيئاً سوى كلمة واحدة .
فقال أبو جهل : ما هي ؟ لنعطيك ها و عشراً من أمثالها .
فقال سيدنا محمّد :
ـ قولوا لا إله إلاّ الله .
فانفجر أبو جهل غيظاً .
ـ اسأل غيرها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) :
ـ لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غير هذا .
و ساد التوتر ، و نهض المشركون و هم يتوعدون سيدنا محمّداً و يهدّدونه ، فقال أبو طالب لسيدنا محمّد :
ـ أبقِ على نفسك و لا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق .
أجاب النبي و قد دمعت عيناه :
ـ يا عماه و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه .
نهض النبي ( صلى الله عليه و آله ) و هو يمسح دموعه ، فناداه أبو طالب برقَة و قال :
ـ أُدن مني يا ابن أخي .
فدنا سيدنا محمّد منه ، فقبّله عمّه و قال :
ـ اذهب يابن أخي و قل ما تشاء ، فو الله لا اُسلمك لشيء أبداً .
ثم راح ينشد متحدّياً جبروت قريش .
ـ و الله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسّد في التراب دفينا
نور الإسلام
و مضى سيدنا محمّد يبشّر بالدين الجديد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور .
و مرّة اُخرى جاء جبابرة قريش إلى أبي طالب و خاطبوه بأسلوب آخر قائلين :
ـ يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد ( أخو خالد بن الوليد ) أنهد فتى في قريش و أجمله فخذه إليك و سلّمنا محمّداً لنقتله .
و أسف أبو طالب لقومه و هم يفكّرون بهذه الطريقة فأجابهم مستنكراً :
ـ أتعطوني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني لتقتلوه . . هذا و الله لا يكون أبداً أرأيتم ناقة تحنّ إلى غير ولدها ؟!
و اشتد أذى المشركين و راحوا يعذبون المسلمين ، و خشي أبو طالب أن يمتد أذاهم إلى سيدنا محمّد ، فاستدعى بني هاشم ، و دعاهم إلى حماية النبي ( صلى الله عليه و آله ) و المحافظة عليه ، فاستجابوا له ما عدا أبي لهب .
و سمع أبو طالب بأن أبا جهل و غيره من المشركين يحاولون قتل سيدنا محمد فمضى يبحث عنه ، و كان معه جعفر ابنه و انطلق إلى تلال مكة و راح يبحث عنه هنا و هناك ، فوجده يصلّي لله و عليّ إلى يمينه ، و كان منظر سيدنا محمد وحيداً و ليس معه أحد سوى عليّ يبعث على الحزن ، فأراد أبو طالب أن يشدّ من عضد ابن أخيه فالتفت إلى ابنه جعفر و قال :
ـ صِل جناح ابن عمّك .
أي صلِّ إلى يساره ليشعر بالعزم و القوّة و الثقة أكثر .
و وقف جعفر يصلّي مع سيدنا محمّد و أخيه علي لله خالق السماوات و الأرض ربّ العالمين .
و مرّة اُخرى افتقد أبو طالب سيدنا محمداً و انتظر عودته فلم يعد ، فراح يبحث عنه . و ذهب إلى الأمكنة التي يتردّد إليها سيدنا محمّد فلم يجده .
فعاد و جمع شباب بني هاشم و قال لهم :
ـ ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة و اتبعوني فإذا دخلت المسجد فليجلس كلّ واحد منكم إلى جانب زعيم من زعمائهم و ليقتله إذا تبيّن أن محمّداً قد قتل .
و امتثل شبّان بني هاشم و ترصّد كلّ منهم أحد المشركين .
و جلس أبو طالب ينتظر ، و في الأثناء جاء زيد بن حارثة و أخبره بسلامة النبي .
و هنا أعلن أبو طالب عن خطّته إذا تعرّض أحدهم إلى حياة النبي بسوء .
و شعر المشركين بالذلّ ، و أطرق أبو جهل برأسه و قد أصفرّ وجهه خوفاً .
و كان بعض المشركين يحرّضون صبيانهم و عبيدهم على إيذاء سيدنا محمّد .
و ذات يوم كان النبي ( صلى الله عليه و آله ) يصلّي فجاء غلام و ألقى القاذورات على كتفيه و هو ساجد ، و راح المشركون يقهقهون .
شعر سيدنا محمد بالألم يعتصر قلبه فذهب إلى عمّه شاكياً ، و غضب أبو طالب ، فاخترط سيفه و جاء إليهم و أمر أبو طالب غلامه أن يأخذ تلك الأوساخ و يلطّخ بها وجوههم الواحد بعد الآخر .
فقالوا : حسبك هذا يا أبا طالب
الحصار
و لمّا رأى المشركون إن أبا طالب لن يتخلّى عن سيدنا محمّد و انّه يتفانى في الدفاع عنه و حمايته ، قرّروا إعلان الحصار الإقتصادي و الإجتماعي على بني هاشم و قطع جميع العلاقات معهم .
وقّع أربعون من زعماء مكة صحيفة المقاطعة و علّقوها في داخل الكعبة ، و كان ذلك في شهر محرّم في السنة السابعة بعد البعثة النبوية الشريفة .
كانت قريش تتوقع استسلام أبي طالب و لكن شيخ البطحاء كان له موقف آخر .
قاد أبو طالب قبيلته إلى وادٍ بين جبلين ، و ذلك لحماية سيدنا محمّد من الاغتيال .
راح أبو طالب يتفقد " الشِعب " أي الوادي و يسدّ الثغور التي قد يتسلّل منها الأعداء ليلاً لقتل سيدنا محمّد .
و بالرغم من شيخوخته فقد كان يتناوب مع أخيه الحمزة و بعض رجال بني هاشم حراسة النبي ليلاً ، و كان ينقل فراشه من مكان إلى آخر ، فقد يترصّد الأعداء في النهار مكان النبي ثم يتسللون في الليل لقتله .
و تمرّ الأيام و الشهور و يقاسي المحاصَرون آلام الجوع و الحرمان في عزلة تامة ، فإذا جاء موسم الحجّ خرجوا ليشتروا ما يلزمهم من غذاء و كساء .
و كان جبابرة قريش و هم أثرياء مكّة يشترون كلّ ما بوسعهم من الطعام حتى لا يبقى في الأسواق منه شيء يشتريه المحاصرون .
و خلال تلك المدّة المريرة ، كان أبو طالب كالجبل لا يلين و لا يتراجع عن الوقوف إلى جانب سيدنا محمّد ، فكان مثال المؤمن الصلب الثابت الجنان ، و طالما سمعه الناس يردد أشعاراً كثيرة منها :
نصرتُ الرسولَ رسولَ المليك *** ببيض تلألأ كلمع البروق
أذبُّ و أحمي رسول الإله *** حماية حامٍ عليه شفيق
و قال مرّة مستنكراً موقف قريش :
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً **** رسولاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب
و أنّ عليه في العباد محبّة *** و لا حيف فيمن خصّه الله في الحبِّ
كان أبو طالب يحبّ سيدنا محمّداً ، يحبّه أكثر من أولاده ، و كان ينظر إليه أحياناً و يبكي و يقول : إذا رأيته ذكرت أخي عبد الله .
و ذات ليلة جاء أبو طالب و أيقظ سيدنا محمّداً من نومه ، و قال لابنه علي :
ـ نم في فراشه يا بني .
كان عُمر علي آنذاك ثمانية عشر عاماً .
قال علي و قد أراد أن يعرف أبوه تضحيته بنفسه :
ـ سوف اُقتل إذن .
فقال الأب :
ـ اصبر من أجل فداء الحبيب و ابن الحبيب .
فقال عليّ بحماس :
ـ أنا لا أخاف الموت و إنما أردت أن تعرف نصرتي .
رَبَتَ أبو طالب على كتف ابنه بحبّ و مضى مع سيدنا محمّد إلى مكان آمن لينام فيه .
و عندما رقد سيدنا محمّد في الفراش ، راح أبو طالب و تمدّد في فراشه ليغمض عينيه هانئاً و قلبه ينبض إيماناً .
و مضت الشهور تلو الشهور و المحاصرون يزدادون جوعاً و صبراً حتى راحوا يقتاتون على ورق الأشجار ، و كان منظر الأطفال الجياع يحزّ في نفس النبي .