الرسالة الثالثة عشر :
جامعة الإمام الحسين الإنسانية
منذ أبصرت النور في ديارهجر ، ومنذ نعومة أظافري التي كانت تقلمها أمي ، وأنا أسمع عن فرع ( جامعة الإمام الحسين) بمنطقتنا ، كانت بالقرب من منزلنا ، نلعب كل يوم أمام بابها، وبسبب صغر سني حينها لم أدرك سبب وجودها هنا ، في بعض أيام الأسبوع وبالذات وقت العصر، كانت أمي تصطحبني معها إلى تلك الجامعة ، رأيتها تجمع كبير، إنها ساحة كبيرة جداً مغطاة بحيث لا تدخلها الشمس ، كنت لا أستطيع مقارنة أبعاد جدرانها بغرفتي الصغيرة ، لصغر جسمي وقصر طولي كان آخرالجدار بعيداً جداً عني ، كان السواد يغشي المكان .
فجأة صعـق أذنيّ صوت صفير حاد صدر من أعلى المكان ، إنه كالبوق المعلق في الزاوية العليا منالجدار، ثم بدأ أحدهم يصدر صوتاً لا أبخصه ، سمعت تراتيل وآيات قرآنية ، يتلو القصص تلو القصص ، أصواتاً حزينة لا أفهم معانيها ، لكنني ومع محدودية إدراكي وجدت فيها نفس عباد ة وتقرب إلى الإله ، كان النسوة من حول أمي يبكين ويندبن أنفسهن ، كنت أنظر لأمي الجالسة خلفي ، فإذا هي مثلهم ، تأن وتبكي ، لم أعرف السبب ؟ لكن كان عندي شعور إنهم فقدوا عزيز ما !!.......
مرة أتذكر إننا كنا في شهر شعبان ، والوقت بعد العشاء ، ألبستني أمي ثيابي الجديدة التي أشتراها لي أبي ً، مشطت شعري ، شدت أحزمة نفسي ، لطفتني برش من العطر ، أتقنت فنها في إظهار روعت هندامي ، فوقفتُ أمامالمرآة المكسورة معجباً بنفسي ً ، لقد دخلت نفسي النرجسية من كثر النظر إلى صورتي حينها كنت أخبر نفسي : إننا كالعادة نحتفل بالعيد ، لكنني لم أجد أمي تصوم كالعادة قبله ، وليس العيد الذي خلاله أشاهد أناس يلبسون الأبيض في التلفزيون ويصرخون لبيك اللهم لبيك ) ، أو ربما إننا سنذهب إلى حفلة زواج .
كانت الدنيا لا تتسع فرحتنا ، وفجأة ونحن خارجين إلى الشارع ، شاهدت معظمالناس مثلنا ، ولبسوا كما لبسنا ، والبسمة ترتسم على وجوههم ، إذن لسنا وحدنا من يحتفل بهذا الحدث الذي لم أعرفه بعد .
هل هو ميعاد من أجل عيد ؟
أم احتفال مجيد ؟
سأعرف لاحقاً .
وصلنا إلى فرع الجامعة المذكورة ، كانت الزينة كثوب العروس ، والأنوار كالتاج ، كانت الروائح تفوح إلى نهاية الطريق ، رأيت الناس أفواجاً يتزاحمون ، هناك مَدخَلين واحد للرجال وآخر للنساء ، والمنظمون واقفون عند الأبواب كالحراس .
دخلت بمعية أمي إلى ذات المكان السابق الحزين ،....... لكن حدث شئ غريب ، السواد اختفى ! والمكان أصبح كالعرس البهيج ، كانت الهدايا والحلويات تتساقط في كل مكان وكأنها من السماء ، لا أعرف من يرميها من كثرة النسوة حولي ، كن يصرخن بالفرحة ، وأنا بدوري أجمع ما يتناثر في حجري وأمامي لأرميه في حقيبة أمي ، خوفاً من أن يسبقني إليه غيري .
أشعار و مواويل أطربت مسامعي يغنيها أشخاص غير عاديين ، سمعت مديحاً وتقديساً لأسماء ( أولهم محمد وآخر محمد ) صلوات الله عليهم ، كنت من الفرحة التي دخلتني ( أحس بمدد من نور يصدر من السماء كالعامود ويسقط في أم قلبي ) ، يصرخون أدركنا يامهدي حتى آخر الليل ، ضل صدى أسمائهم يدغدغ روحي وأنا مستلقي على سريري ، كنت أتذكر ما دار في هذا اليوم الحافل ، كنت أتذكرها كلوحة فنية جميلة ، أتقن رسامها مزج ألوانها .
كبرت وترعرعت ،أزداد طولي وعرضي ، أصبحت أدرك بعض الأشياء من حولي ، التحقت بالمدرسة التي في آخرالشارع ، تحولت من صحبة أمي إلى ملازمة أبي ، وخاصة في خارج المنزل ، بالإضافة للمسجد ، كان والدي يأخذني معه إلى عدة مناسبات ، في الأفراح والأتراح ، ففي الأعراس كان اللقاء يتم في نفس فرع الجامعة جارتنا ، كنا نذهب لنشارك الناس فرحتهم ، ونأكل معهم ولائمهم ، لكن مع أبي تغير الوضع ، لقد أدخلني معه من باب الرجال ، لقد كان المكان أكبر مما شاهدته مع أمي ، حيث المنبر الكبير، والسماعات الكبيرة ، ورجال يحملون صحونا بها أكواب من الشاي وضيفة من القهوة العربية .
هنا شاهدت الناس يلتقون ببعضهم، حتى من يقطن بعيداً ، من المدن والدول المجاورة ، كانوا يحضرون ويشاركون الأفراح والأتراح ، ويلتقون مع أقربائهم وأحبتهم دون ميعاد.
أما بالنسبة للأتراح فقد رأيتها بأمي عيني ، نعم إنها ُتعقد هنا ، كان العزاء الخاص بفقدان قريب يعقد هنا ، فيحضر أهل المتوفى في فرع الجامعة ويستقبلون المعزين ثلاثة أيام ، وذلك مواساتهم بقراءة القرآن والدعاء للفقيد .
كباقي الناس، كبرت وعشت في أحضان فرع الجامعةالإنسانية حتى بلغ مني الرشد نصيباً ، زداد تسجيل حضوري شخصيا ، دون حضور أبي ، لقد تبرمج عقلي مع المكان ، وصرت أحضر للتزود من المفاهيم الجميلة والحكم المفيدة وأهمها التشريعات السماوية ، ففهمت أكثر الأمور، وتعلمت كيف أذهب لوحدي ، بدأت أدون كل ما أسمعه ، محاضرات طوال العام ، وخطبو مواعظ ترن مسامعي ، محاضرات يلقيها عدة أساتذة ، ممن يحملون شهادات حسينية، وممن تخرجوا من بين الكفتين أو الثقلين ، القران وجامعة آهل البيت ( جامعة مكارم الأخلاق ).
تلقت مسامعي ، أو بمعنى أصح تلقت مسامعنا بصفة الجمع ، محاضرات متنوعة ومختلفة ، غطت كل التخصصات ، مثلاً في العقائد وخاصة علاقتك بخالقك وعلاقتك بمنحولك ، سواء أهلك أو مجتمعك ، علمونا إن معرفة الله ورسله والصالحين من عباده ومحبتهم تأتي أولاً ، وبر الوالدين ثانيا .
قالوا لناكيف كان الأب المثالي يعامل أبناءه ، وكيف كان الأبن يعامل أبيه، علمونا كيف نبر والدينا ، وكيف نرعاهم ، في حياتهم ومماتهم ، وحتى بعد رحيلهم ، ضربوا لنا الأمثلة والعبر الجمة ،( كيف كان الإمام السجاد (ع) يتحاشى أن تسبق يده الأكل على ماوقعت عليه عينا والديه ، واستدلوا بقوله تعالى :بسم الله الرحمن الرحيم :وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) سورة الإسراء
وفي العبادات ، علمونا إن الصلاة نوعين ، صلاة بين العبد وربه ، وصلاة بين العبد والعباد من حوله وهي صلاة ( مكارم الأخلاق ) واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، وأمرونا بالمحافظة على الصلاتين معاً .
فأفهمونا خلاصة : ( إن الله خلق العباد لعبادته واستدلوا) بقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات ، وأرسل لهم الرسل ليعلموهم ويتمموا عليهم مكارم الأخلاق .
كما ُعلمنا باقي العبادات كالحج والخمس والزكاة وعلمنا العلاقات الإجتماعية والاقتصادية والوطنية والنفسية والتعليمية ومعظم علوم الحياة .
كيف كانت الزوجة تخاطب زوجها ، وكيف كانالزوج يساعد زوجته ، .....كيف كان الأمام علي (ع) يساعد الزهراء ( ع) في شؤون منزلها واستدلوا : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورةالروم.
علمونا كيف كانت زوجة الأب تفدي بأعز ماعندها لأبناء زوجها ، ( كما كانت أم البنين (ع) تفدي بأربعة ليوث لأجل عيون الأٍسد الإمام الحسين (ع) أبن ضرتها.
كيف كان الأخ يشد بعضد أخيه ( كما فعل العبد الصالح العباس مع أخيهالحسين (ع) واستدلوابقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) سورة القصص
وإن الناس إخوة ، يفدي كلم منهما الأخر بنفسه ، واستدلوا : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) سورة الحجرات ، والكبير يرحم الصغير ،والصغير يحترم الكبير .
صدقوني إنها جامعة يصعب علي وصفها واختصار أهدافها في رسالة ، إنها مدرسة عظيمة أشبعت كل جوانب الحياة ، وعبأت كل الفراغات الموجودة داخل أنفسنا وبيننا ، إن القلم يعجز أن يترجم بما في جعبتي ، واللسان يتمتم بما يريد طرحه قلبي .
إني أقف حائراً عن بلوغ مرادي في الكلام والإسهاب، صدقوني هذه الجامعة صنعت منا أجيالاً إنسانية بمعنى الإنسانية وأخلاقيةبمعنى الوصف ، فهي أكثر من أن نسميها ثقافة أو تعليم ، فالصغير قبل الكبير، والفقير قبل الغني ، كلهم متساوون في نظر الجامعة ، فهم يأتون ويشبعون عقولهم طول العام (بالغذاء الروحي ) ويشبعون بطونهم ( بالغذاء المادي) مجاناًودون أن يمّن عليهما أحد !! ، إنه رزق وضمان من السماء للمستضعـفين في الأرض ، فليس لي إلا أن أعلنها وأصرخها بقوة :
إن الباب مفتوح للتسجيل ، وللجميع وبدون أي أتعاب ُتذكر ، وفروع الجامعة منتشرة في أصقاع العالم ، فهيا للإنظمام لهذه الجامعة ، ولنحجز كرسياً في سفينة نوح ، حتى لو بالإنتساب ، ولو بعد الكِبَر في السن ، فالفرصة لا تعوض والزمن يسير ، وسيكتشف الكثيرون من البشر مستقبلاً إنهم فوتوا على أنفسهم أهم فرصة في حياتهم ، وهي الإنظمام لهذه الجامعة ، وسيعرفون يوما إن منسوبي هذه الجامعة محسودون في الدنيا والآخرة ، وإنهم سيتشرفون بلقاء الأساتذة الربانيين والمعلمين الأوائل .