ويقول السيد محمد حسن نجل السيد علي القاضي : " وبهده المناسبة أورد حادثة اتفقت له قدّس سرّه سمعتها منه عدّة مرّات, حينما كان يؤكدّ على ضرورة حصول الرغبة الملّحة الصادقة في الوصول إلى أي هدف سام وعلى الأخصّ في الأمور المعنوية والكمالات النفسية العالية, كان قدّس سرّه يقول :تعقدت في نفسي مشكلة ,واستعصت عليَّ ولم يكشف لي النقاب عنها وطالما استفسرت واستعنت بمن كنت ملازماً لهم سنين طويلة ليعينوني في حلّ معضلتي , فما كان منهم إلاّ الأّمر بالصبر والتريث, وقولهم الكريم : إن الله تعالى هو الذي يقدّر لعباده, ويفتح لهم الأبواب, وينير لهم السبيل .
ومن شدّة قلقي لموضوعي واهتمامي به كنتُ أذهب في أكثر الأيام بعد العصر وقبيل الغروب إلى مسجد السهلة ماشياً لأداء الفريضة ,ثمّ أتوجّه إلى جامع الكوفة, فأبيت فيه أو أعود إلى النجف .
ودام الحال هكذا سنين حتى كاد اليأس يستحوذ على مجامع قلبي ,وذات ليلة شاتية عاتية, خرجت إلى جامع السهلة وبعد أداء الفريضة ,وبسبب برودة الجو خرجت مسرعاً قاصداً جامع الكوفة ,لأن وسائل المبيت في غرفتي هناك كانت متهيئة أكثر .
وعندما خرجت من الجامع سمعت أحد مجاوري المسجد يناديني , غير أنّي لم أعره سمعي بسبب قلقي وانهماكي في تفكيري , وواصلت السير في طريقي (وأتذكّر أن الطريق بين السهلة والكوفة أنذاك كان جادة بعض مترين فقط, وعلى جانبي الطريق مقالع وحفر عميقة وكثيرة ,تكثر فيها الأفاعي والعقارب ) يقول : وما أن بعدت عن الجامع قليلاً حتى هبّت عاصفة رملية هوجاء اضطرتني أن أدور حول نفسي عدّة مرّات مما سبّب لي أن أفقد اتجاهي في الطريق والمسير ,وأظلمت الدنيا في عيني , فصرت أسير على غير هدى وتتقاذفني الرياح يمنة ويسرة ثم رأيت أن أقف هنيئة وأمسح عيني وأتميز الطريق, لئلا أسقط في الخفر المنتشرة على جانبي الطريق, ونظرت أمامي فإذا أنا بشبح عظيم الجثة يقبل نحوي وبسرعة وفي لحظات – ولا أدري كيف – صمّمت أن أهجم عليه أنا الآخر ,ولعّل ذلك كان من فرط الخوف والفزع ,وبدا لي أنّ الهجوم أولى من الجمود والوقوف أمام ذلك الشبح المخيف , فرفعت عصاي إلى الأعلى ( وكان هززتها في الهواء كهيئة المهاجم وتقدّمت عدّة خطوات باتجاه ذلك الشبح المقبل علّي ولم أدر بعد ذلك ما حدث .
غير أنّي وبعد لحظات وجدتُ نفسي في حفرة عميقة من تلكم الحفر التي كان يكثر أمثالها على جانبيّ الطريق وبعد لحظات أخرى وصل ذلك الشبح على فوهة الحفرة وغطاها تقريباً فمددت عصاي نحوه وتبيّنته فإذا هو مجموعة من الأدغال وحشائش الصحراء, جمعتها وكومتها الرياح بتلك الصورة واندفعتْ نحوي بفعل العواصف .
فمّرت عليَّ لحظات تمشت القشعريرة في جسمي , وأدركت جيداً الوضع السيء الذي انتهى إليه أمري , إني في حفرة عميقة وفوق رأسي كومة من الأدغال بحال من الأحوال أن أنجو من هذا المأزق والمكث هنا غير ممكن لوجود الهوام السامة والضارة .
ولم تمرّ علّي إلأ بضع دقائق حتى رأيت الهدوء والاستقرار أخذ يدّب في جسمي , فألقيت نفسي على التراب , والتحفت بعباءتي , واسترحت سويعة وكأنّي نائم في غرفتي الوثيرة , ونسيت ما كنت أشعر به من الجوع والخوف والإرهاق , واستقرّت نفسي ونَفَسي ّ ثم أخذت ْ تتراءى لي وتتمثل أمام عيني مغاليق أبواب معضلاتي بوضوح ودون أي غموض أو إبهام وانكشف لي السرّ الذي كنت أحاول حلّ لغزِه منذ سنين ,وبعد فترة من الاستراحة جلست وقمت بأداء أعمالي الليلة من التلاوة والصلوات ,ثم وضعت ُ خدّي على التراب , والتحفت بعباءتي , واستسلمتُ إلى نومة هنيئة وما أفقت إلاّ على صوت قطرات المطر تتساقط على عباءتي, فنهضت وخيوط فضيّة من القمر كانت تتراءى لي من خلال الغيوم, ونظرت إلى كومة الأدغال المجتمعة على حفرتي , وتمعّنت ما حولي وما يحيط بي وتأكد لدّي – حينذاك – أن مكاني وبتلك الكيفية كان أصلح مكان يمكن أن أقضي فيه ليلتي , ولبُعدي عن الطريق والحفر والأحجار المنتشرة حولي , ممّا لا يدع مجالاً للشك من أنّي ما كنت أهتدي إلى طريقي أبداً .
فأخذت أدفع الأدغال بعصاي عن فوهة الحفرة ,وأحاول جهدي الخروج ,وإذا بصوت الشيخ محمد جواد السهلاوي يناديني , وقد كان يبحث عنيّ في الصحراء, فرفعت صوتي , واهتدى الشيخ إلى مكاني وساعدني على الخروج وقد قال : إني علمت ُ بأن هذا مصيرك ,وما كنتُ أقدر أن أعمل أي شيء أنذاك وفي أول الليل لشدة العاصفة حتى هدأت قبيل الفجر, وها أنذا أبحث عنك منذ سويعة ,وقد وصلت إلى هذا المكان مرّات ولكن لم يخطر ببالي أنك هنا حتى سمعت صوتك , وحسبت أن بك أذىّ , وإذا بك ضاحك مستبشر كأنك قضيت هنا ليلة طيبة , يقولها ساخراً , فسكتّ ولم أجبه بشيء, فقادني إلى الجامع وغسل ثيابي من الوحل .
ثم قال قدّس سرّه : إن الشيخ جواد السهلاوي هو الذي أشاع هذا الخبر, ولولاه لكنت كتمته ولم اخبر به أحداً , لأن القدر كان قد قادني إلى مأزق ,ولولا العناية الإلهية لكنت نسياً منسياً, إذ كان يكفي أن أصاب بلسعة بعض العقارب السامّة المنتشرة في الصحراء وفي تلك البقعة بالذات .
وبعد تلك المعاناة الطويلة تبدأ مرحلة جني الثمار ,وتنفتح عين القلب ليرى العوالم الأخرى ويطلّع على ما حُجب علمه عن الآخرين ,
يقول السيد القاضي : خرجتُ يوماً من الغرفة إلى رواق الدار رأيت نفسي واقفاً على جانب صامتاً, فأطلت النظر إليه ملياً فرأيت في وجهه خال, فدخلتُ الغرفة ونظرتُ إلى وجهي في المرآة فرأيت ذلك الخال فيه ولم أكن قد اطلعت عليه حتى الآن .
ثم بدأ تزداد مكاشفاته على الغيب يوماً بعد يوم حتى وصل حالاته المعنوية في أواخر عمره إلى حدّ عبرّ عنها بقوله : لم استطع جمع المكاشفات والحالات لكثرة وتتابع ورودها .
ويقول آية الله السيد عبد الكريم الكشميري : لقد كان السيد القاضي كلّه مكاشفة وقد صار في آخر عمره لطيفاً ورقيقاً جداً فكان بمجرّد أن يرى الماء يتذكر مصيبة عطش الإمام الحسين عليه السلام ويشرع في البكاء .
ولقد وصل السيد القاضي اثر هذه المجاهدات والرياضات العبادية إلى درجة الفناء في الله عز وجل فلم يكن يحسّ ويهتم بما يجري حوله مهما كان ذلك عظيماً وخطيراً في نظر الناس .