رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها..
حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...
ألا أنها تحسّنت في الآونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله
فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمّل صدمة أخرى..
و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدّر الله ..
طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...
دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، ألا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...
اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي ّ رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي،
و بمعالم غامضة مبهمة...
" كيف أنت صغيرتي؟ "
لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :
" كما أنا "
و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...
قلت :
" أنت بخير، الحمد لله .."
قالت :
" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمّي ... "
مزقتني كلماتها هذه، قلت :
" عالة على خطيبك !؟ "
قالت مصححة :
" ابن عمّي.. فأنا لن أتزوّجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."
كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :
" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمّك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "
الآن، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم ..
نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزّقتها..
أخيرا نظرت إلي :
" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "
" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "
" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "
قلت بألم :
" و أنا ؟ "
رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :
" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين ..
و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "
اغتظت، و قلت بعصبية :
" كفّي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "
رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...
قلت :
" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الآن فصاعدا، لا ..
بل من يوم وفاته فصاعدا بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."
لا تزال تحملق بي بريبة..
قلت :
" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "
شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث ألا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :
" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين..
و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر..
ثم تنظر إلي...
نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :
" متر ! أليس كذلك ؟؟ "
هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد..
ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها..
و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !
لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة
أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟
لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..
إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي...
قلت :
" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة،
و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "
قالت :
" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "
قلت :
" سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ "
نظرت إلى الأرض، ثم قالت :
" حسنا "
أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت :
" إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا "
وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل..
أخذت تنظر إليها، و شردت...
قلت مداعبا :
" اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! "
ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات...
~ ~ ~ ~ ~
لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها
و وضعتها قرب الباب..
وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر..
سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر..
فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى...
لقد كنت أنا من أصرّ عليهما بالحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون..
و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر..
أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما..
لكنه لن يتخلى عني..
أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. ألا أنني لا أملك من الأمر شيئا
و إذا ما كتب لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي..
حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية
و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو...
أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب...
ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي..
وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات..
قال :
" سأفتقدك"
قلت :
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
" و أنا كذلك.. سنأتي لزيارتك كل أسبوع"
ابتسم ابتسامة واهنة و من ثم قال :
" هل ستكونين على ما يرام هناك ؟؟"
لم أرد.. فأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني..
" أينما كنت يا رغد..أتمنى لك السعادة و الراحة "
نظرت إليه نظرة امتنان..
أمسك يدي بحنان و قال :
" سأكون هنا.. متى ما احتجتني.. دائما في انتظارك و رهن إشارتك.."
لم أملك إلا أن طوّقته بيدي الأخرى.. و قلت :
" يا عزيزي..."
و تعانقنا عناقا هادئا صامتا.. طويلا..
بعد مدّة ، عاد وليد..
ودّعنا سامر.. و ركبنا السيارة، وليد في المقدمة و أنا خلفه.. وانطلقنا...
لكي يقطع الوقت و يقتل الملل، أدار المذياع.. فأخذت أصغي إلى كل شيء و أي شيء.. كما كنت أراقب الطريق...
و رغم الصمت الذي كان رفيق لسانينا، ألا أنني شعرت به يكلّمني...
أكاد أسمع صوته، و أحس بأنفاسه.. و الحرارة المنبعثة من جسده الضخم... كان هو مركزا على الطريق..
بينما أنا أغلب الأحيان مركزة عليه هو...
الآن، و بعد كل الأحداث التي مررت بها..أعترف بأنني لا أزال أحبه..
وصلنا إلى نقطة تفتيش..ما أن لمحتها حتى أصبت بالهلع..فبعد الذي عشته تلك الفترة..
صرت أرتجف خوفا من مثل هذه الأمور...
الشرطي طلب من وليد البطاقة و رخصة القيادة..
ثم سأله عني..
" ابنة عمي "
" أين بطاقتها ؟ "
" إنها لا تحمل بطاقة خاصة، فهي صغيرة "
" إذن بطاقة والدها "
" والدها متوف، ووالدي الكافل كذلك، توفي مؤخرا..ألا أنها مضافة إلى بطاقة شقيقي، خطيبها حاليا "
قال الشرطي متشككا :
" هل هذا صحيح ؟؟ "
قال وليد :
" طبعا ! "
الشرطي التفت إلي أنا و قال :
" هل هذا ابن عمّك ؟ "
قلت بوجل :
" أجل "
" أهو خطيبك ؟ "
" لا ! شقيق خطيبي.."
" و أين خطيبك أو ولي أمرك ؟ "
" لم يأت ِ معنا، لكنه على علم بسفرنا "
" صحيح ؟ "
وليد قال بعصبية وضيق :
" و هل تظنني اختطفتها مثلا ؟ بربّك إنها مثل ابنتي "
ابتعد الشرطي مترددا ثم سمح لنا بالعبور...
أنا كنت أنظر إلى وليد عبر المرآة.. مندهشة و مستنكرة جملته الأخيرة !
ابنته !؟ أنا مثل ابنته ؟؟
فارق السن بيننا لا يبلغ التسع سنين !
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
وليد أبي !
بابا وليد !
و شعرت برغبة مفاجئة في الضحك !
ألا أن هذه الرغبة تحوّلت إلى حرج شديد جدا..عندما أصدرت معدتي نداء الجوع !
مباشرة نظر وليد عبر المرآة فالتقت أنظارنا.. و أبعدت عيني بسرعة في خجل شديد...
تكلم وليد قائلا :
" لم تأكلي شيئا منذ الصباح..أليس كذلك؟ "
تحرجت من الرد عليه..و علتني حرة الخجل.. لم أكن في الآونة الأخيرة أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم..
و كنت أجبر نفسي على أكلها فقط لأبقى حية..
أتذكر الآن.. الطبخات اللذيذة التي كانت أمي، و دانة تعدّانها..
آه أماه..
إنني مشتاقة لأي شيء من يديك.. حتى و لو كان السمك المشوي الذي تعدّينه
و اهرب أنا من المائدة كرها له...
كنت سأدخل متاهة الذكرى المؤلمة، ألا أن صوت وليد أغلق أبواب المتاهة حين سمعته يقول :
" سآخذك إلى مطعم جيد في المدينة الزراعية.. سيعجبك طعامه "
المشوار كان طويلا.. و الهدوء جعل النعاس يطغى علي.. فنمت لبعض الوقت..
صحوت من النوم على صوت وليد يهمس باسمي...
" رغد.. رغد صغيرتي.."
فتحت عيني.. فوجدته ملتفتا إلى الوراء يناديني.. و تلفت من حولي فرأيت السيارة واقفة ..
قال وليد:
" وصلنا "
قلت :
" المزرعة ؟ "
و أنا أطالع ما حولي.. باستغراب..
قال :
" المطعم "
قلت :
" ماذا ؟ "
" المطعم صغيرتي.. نتناول عشاءنا ثم نذهب إلى المزرعة "
و تذكرت أنني كنت جائعة ! كانت الوقت لا يزال باكرا..
وليد فتح بابه و خرج من السيارة، ثم فتح الباب لي..
هبطت و صافحتني أنسام الهواء الباردة.. فضممت ذراعي ّ إلى بعضهما البعض..
" أتشعرين بالبرد؟ "
" قليلا"
" المكان دافئ في الداخل.. هيا بنا "
سرنا جنبا إلى جنب، أنا بقامتي الصغيرة و رأسي المنحني للأسفل، و هو بجسده العملاق..
و رأسه العالي فوق هامته الطويلة! ثنائي عجيب متناقض ! دخلنا المطعم .. كان تصميم مدخله جميل..
و الكبائن متباعدة و متقنة الهندسة..
اختار وليد كبينة بعيدة، و جلسنا متقابلين، لكن ليس وجها لوجه!
شغلنا نفسينا بتقليب صفحات الكتيب الصغير، الحاوي لقوائم الأطعمة و المشروبات...
قال وليد :
" ماذا تودين ؟ "
في هذه اللحظة ، و أنا في توتري الشديد هذا، و الإحساس بقرب وليد يشويني.. قلت :
" دورة المياه "
" عفوا ! ؟ "
تركت الكتيب من يدي، قام وليد و قال :
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
" تفضلي.."
كانت دورة المياه النسائية في الطرف الآخر..على مقربة من الباب توقّف وليد..
و تركني أمشي وحدي..
التفت إليه.. قال :
" سأنتظر هنا "
لم أشعر بالطمأنينة.. تراجعت .. قلت:
" لنعد "
قال :
" هيا رغد ! سأبقى واقفا في مكاني.. "
" لا.."
وليد نظر إلى ما حولنا ثم قال :
" حسنا، سأقترب أكثر"
و مشى معي حتى بلغنا الباب...
نظرت إليه بشيء من التردد، ألا أنه قال :
" لا تتأخري رجاء ً "
و أنا أفتح الباب قلت :
" إياك أن تبتعد ! "
قال مطمئنا :
" لا تقلقي.. "
و عندما خرجت وجدته واقفا بالضبط عند نفس النقطة !
عدنا إلى تلك الكابينة و طلب لي وليد وجبة كبيرة، مليئة بالبطاطا المقلية !
لا أعرف أي شهية تلك التي تفجرت في جوفي، و التهمتها تقريبا كاملة..!
و لو كان طلب طبقا آخر بعد ، لربما التهمته أيضا عن آخره.. يكفي أن يكون وليد قريبا مني
حتى أشعر برغبة في التهام الدنيا كلها...
بعد العشاء.. قام وليد بجولة في المنطقة، بين المزارع.. و أراني بعض معالم المدينة
و كذلك المعهد الذي يدرس فيه، و السوق الذي تباع فيه الخضراوات...
منذ زمن.. و أنا حبيسة الشقة و المستشفى، لا أرى الشمس و لا أتنفس الهواء النقي..
لذلك فإن الجولة السريعة هذه روحت عن نفسي كثيرا...
كان كلما تحدّث عن أو أشار إلى شيء، أصغيت له باهتمام.. ودققت بتمعن
و كأنه درس علي حفظه قبل الامتحان!
قبيل وصولنا إلى المزرعة، سألني :
" أتودين بعض البوضا..؟"
و كان ينظر إلي عبر المرآة ...
قلت منفعلة مباشرة :
" ماذا !؟ البوضا مجددا ! كلا أرجوك ! أنا يتيمة بلا مأوى الآن !؟؟ "
و ليد، حدق بي برهة ، ثم انفجر ضاحكا !
أنا كذلك، لم أقو على كبت الضحكة في صدري، فأطلقتها بعفوية...
نعم ! فلن تغريني البوضا مرة أخرى و لن أنخدع بها!
عندما وصلنا إلى المزرعة كانت الساعة تقريبا التاسعة مساءا...
مباشرة توجهنا إلى المنزل، و قرع وليد الجرس، ففتح العجوز الباب...
تهلل وجهه لدى رؤية وليد و صافحه و عانقه، ثم رحب بي ترحيبا كريما...
قال وليد :
" ابنة عمي .. تحت وصايتي الآن.. و إن لم يكن في ذلك أي إزعاج.. فهي ستبقى معي هنا حتى نجد حلا آخر.."
شعرت أنا بالحرج، ألا أن ترحيب العجوز خفف علي ذلك، قال :
" عظم الله أجرك يا بنيتي، على الرحب و السعة، و إن لم تتسع المزرعة لكما نحملكما على رؤوسنا.."
ابتسمت للعجوز و شكرته..
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
قال العجوز مخاطبا وليد، الذي كان يجول ببصره فيما حوله :
" في المطبخ.. تفضلا "
لم يتغيّر في ذلك المنزل أي شيء...
سرت تابعة لوليد الذي تقدّم نحو إحدى الغرف، و التي يبدو أنها المطبخ...
و العجوز خلفنا
هناك.. وجدنا أروى و أمها تجلسان على الأرض حول سفرة العشاء..
. و بادرتا بالنهوض بمجرد رؤيتنا...
و حانت اللحظة التي كنت أخشى حينها... ما أن وقع نظري على أروى...
حتى شعرت بشيء ما يتفجر في صدري... شيء حارق موجع..
كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب
و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس !
رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها
ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه !
وليد ببساطة مدّ يده و صافحها !
" حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ "
قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما
ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ...
إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي !
" مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك "
رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها..
أعني لأجبرها على ترك يد وليد...
" أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم "
قالت :
" كيف صحتك الآن ؟ "
" بخير و لله الحمد "
عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه :
" هل كانت رحلتكما متعبة ؟ "
قال :
" لا ، كانت ممتعة "
نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم...
قالت أروى :
" تفضلا.. شاركانا العشاء "
و كررت أمها الجملة ذاتها
قال وليد :
" بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس "
و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة..
و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء...
جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره..
و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد :
" رغد"
نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال :
" أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر..
كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. "
لم أعلّق ، فقال :
" هل هذا يروق لك ؟ "
قلت :
" أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .."
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
قال :
" لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف ..
هل يزعجك أنت ذلك؟؟ "
قلت :
" سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ "
بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال :
" رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما "
قلت :
" حقا وليد ؟؟ "
قال :
" طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..."
شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه ..
لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا.
.و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني..
لم يبق لي إلا أنت..
أنت الدنيا في عيني..
أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت..
هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك..
" وليد .."
همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا :
" نعم صغيرتي ؟ "
قلت :
" أنا.. أنا..."
و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي...
" تفضلا.."
لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي ألا أنني فعلت من باب المجاملة..
أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد...
تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي :
" يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك "
نظرت إلى وليد و قلت :
" و أنت ؟ "
قال :
" في غرفتي ذاتها "
هززت رأسي اعتراضا..
وليد قال :
" لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما "
" لا ! لن أبقى وحدي هنا "
قال :
" يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. "
قلت :
" إذن خذني لمكان آخر "
تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال :
" حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل"
لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع..
قال :
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
" هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر"
فاستسلمت للأمر...
ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد :
" وليد.. لا تبتعد عني أرجوك "
وليد نظر إلي بعطف و قال :
" لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ "
قلت :
" لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني "
كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة..
قال :
" اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا "
ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى..
غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ...
كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا ألا أن القلق لم يسمح لي بالنوم..
أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا..
ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس..
كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير..
و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل..
.و أوصدت الباب من بعدي !
لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد..
أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه !
مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة !
و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... !
جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا..
فقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض..
استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة !
~ ~ ~ ~ ~
وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..
هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع
و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟
إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة...
و لا تستحق حياة كهذه...
استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج...
كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي...
حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..!
و ذلك الشيء جلس أيضا
دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟
في اليقظة و المنام !
قلت متسائلا :
" رغد ؟"
ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد !
" نعم "
قلت :
" رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ "
" نعم، أريد أن أنام "
و استلقت على المقعد مجددا !
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي..
شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير
و لا يتسع لجسد رجل مثلي !
تقدمت نحوها
" رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ "
قالت و هي شبه نائمة :
" كنت خائفة "
" مم ؟ "
" من الأشباح "
ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟
" أي أشباح ؟؟ "
جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول :
" أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ "
و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت :
" وليد .. "
قلت :
" نعم.. "
قالت :
" نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ "
" نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ "
أخذت تفرك عينيها...
قلت :
" لم أنت هنا ؟ "
قالت :
" لم أشعر بالطمأنينة هناك.. "
" لم صغيرتي؟ "
قالت و هي تنظر إلي برجاء :
" أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.."
" ستعتادينه.. لا تقلقي "
" لكن يا وليد... "
هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني...
" وليد .. انهض بني ..الصلاة "
و كاد يفتح الباب، ألا أنه كان موصدا ! إنها رغد !
صغيرتي المجنونة !
أجبت :
" نعم عمي أنا مستيقظ "
قال :
" هيا إذن "
قالت رغد :
" إلى أين ؟ "
" إلى المسجد "
قالت معترضة :
" و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "
كنت أعرف أنها ستقول ذلك !
ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج...
و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام...
قلت :
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
" عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا "
تعجّب العم و قال :
" لم يا ولدي ؟ "
" أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم "
جعلت الباب شبه مغلق
و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال :
" الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ "
" بلى "
و همّت بالخروج قاصدة إياه ...
" انتظري رغد "
نظرت إلي باستغراب...
قلت :
" حتى يخرج العم ... "
و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته
و استدرت إلى رغد قائلا :
" تفضلي ... "
رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي ..
رفعت رأسها إلي و قالت :
" أنا آسفة " ...
توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض..
منتظرا منها الخروج...
ألا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت :
" لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! "
رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا !
كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام...
قالت :
" بابا وليد ! "
و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون !
إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد..
فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات..
إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا...
و أنتم الشاهدون
---------------------
نهايه الحلقه الـ30
ترقبوا الحلقه الـ31
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
الله يعطيك العافيه ساقي العطاشا
تحياتي لك
زهرة القلوب
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
مشكوره على المتابعه
الحلقةالواحدةوالثلاثون
~ ابتعدي عن حبيبي ~
رغم أنني كنت نعسى في البداية، ألا أن النوم خاصمني ذلك الصباح..
وليد جلس في الصالة يقرأ القرآن، و جلست أنا على مقربة أنصت إليه..
إلى أن عاد الرجل العجوز بعد طلوع الشمس.. فختم وليد قراءته و راح يتحدّث معه..
كانا يتحدثان بشأن المزرعة و ما سيفعلانه هذا اليوم..
و كنت أستمع إليهما ببلاهة ! فأنا لا أفقه كثيرا مما يذكرون !
وليد التفت إلى الآن و قال :
" سوف أخرج للمزرعة الآن، أتأتين معي ؟؟ "
وقفت من فوري و تقدّمت ناحيته.. قال متما عبارته السابقة ببطء :
" أم تفضلين العودة للنوم ؟ "
" سآتي معك.."
و خرجت معه إلى المزرعة..
الهواء كان باردا و كنت أرتدي العباءة فوق ملابس النوم، لذا شعرت بالبرودة تخترق عظامي
قال وليد :
" سنبدأ بجولة تفقدية "
حذائي كان عالي الكعب و لا يصلح للسير على الرمال
لذلك طلب مني وليد ارتداء أحد الأحذية المطاطية الموجودة عند مدخل المنزل...
سرنا في اتجاه شروق الشمس.. و كم كان منظرا جميلا لم أر مثله منذ زمن...
الرياح كانت في مواجهتنا، تغزو أنفي رغما عني ، و تزيد من شعوري بالبرد..
أخذت أفرك يدي بتكرار.. أما وليد فكان يسير بثبات في وجه الريح ، و لا يبدو على جسمه أنه يتأثر بها !
كالجبل تماما !
قال لي:
" الجو بارد.. أتفضلين العودة للمنزل ؟ "
" ماذا عنك ؟ "
قال :
" سأبدأ حرث منطقة معينة هنا، سنقوم بزرع بذور حولية جديدة فيها.. "
و أشار إلى المنطقة المقصودة...
قلت :
" أنت تحرثها ؟؟ "
و يبدو أن سؤالي هذا ضايقه أو أحرجه.. نظر إلي برهة صامتا ثم قال و هو يحدّق في تلك المنطقة :
" نعم أنا يا رغد.. فهذا هو عملي هنا.. و من هذا العمل أعيش و أعيل نفسي.. و صغيرتي .."
ثم التفت إلي و قال :
" فهل يصيبك هذا بخيبة أمل أو .. اشمئزاز ؟ "
قلت بسرعة :
" لا ! لم أٌقصد ذلك.. "
" إذن ؟ "
" تعرف يا وليد.. فخلال التسع سنين الماضية كنت أعتقد أنك... "
و بترت جملتي.. فقد أحسست أن هذا يؤلمه.. و إذا تألم وليد قلبي فأنا أموت ..
قلت :
" لكن ، ألا يمكنك مواصلة الدراسة الآن ؟؟ "
قال :
" إنني أدرس الآن في معهد محلي
و إن تخرجت منه بشهادة معتبرة فستكون لدي فرص أفضل للعمل
لكن إلى ذلك الوقت سأظل مزارعا "
لم يعجبني ذلك، فأنا لا أريد لوليد أن يغمر يديه في التراب ..
بل أن يعلو السحابلكني لم أشأ إحراجه، فقلت :
" أتمنى لك التوفيق "
ابتسم وليد ابتسامة رضا، و تابعنا الطريق...
بقيت أراقبه و هو يعمل، تارة شاعره بإعجاب به ، و تارة شاعرة بشفقة عليه
و تارة بغضب من الأقدار التي أوصلت ابن عمّي إلى هذا المستوى..
ليتني أستطيع منحه ثمان سنين من عمري، تعويضا عما خسر..
بل ليتني أهديه عمري كله.. و كل ما أملك..
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
الحماس الذي تملكني أثناء مراقبة وليد ، و الحرارة التي تنبعث من جسده و هو يعمل بجهد
و من صدره و هو يتنفس بعمق، و من عينيه و هو ينظر إلي
كل هذه تجمعت معا متحدة مع أشعة الشمس التي ترتفع في السماء
و أكسبتني دفئا و حيوية لا نظير لهما !...
بعد فترة ، أقبلت أروى..
و الآن، لست فقط أشعر بالدفء ، بل و بالاشتعال ، و الاحتراق أيضا ...
" صباح الخير رغد ! نهضت باكرة ! "
باكرة جدا ! كم تبدين حيوية و نشطة بعد نوم هانىء ! أنا لم أنم كما ينبغي ..
قلت :
" صباح الخير"
وليد كان موليا ظهره إلينا هذه اللحظة ، رفعت أروى صوتها
و كذلك يدها و هتفت و هي تلوّح :
" صباح الخير يا وليد "
وليد استدار و نظر إليها و رد التحية...
هتفت :
" تعال ، فقد أعددنا الفطور "
قال :
" حسنا ، أمهليني دقيقتين اثنتين "
و أتم ما كان يقوم به ...
أروى التفت إلي و قالت :
" أعددت فطورا مميزا من أجلك ! آمل أن يعجبك طهو يدي !
الجميع يصفني بالطاهية الماهرة ، و وليد يعشق أطباقي ! "
وليد ماذا ؟
يعشق أطباقها ؟؟ يا للمغرورة !
قلت :
" وليد يعشق أطباق والدتي فهي لا تقارن بشيء ! "
أروى قالت :
" رحمها الله "
و تذكرت أنه لم يعد لدي والدة ! و لم يعد بإمكان وليد تذوّق تلك الطبخات اللذيذة التي يلتهمها عن آخرها...
ضاق صدري لهذه الذكرى.. و أحنيت رأسي إلى الأسفل بحزن..
أورى لاحظت ذلك فقالت :
" آسفة.. "
لم أتجاوب معها... ، قالت :
" كم كنت متشوقة للتعرف إليها فقد حدّثني وليد عنها كثيرا..
و كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر .. "
رفعت نظري الآن إليها، ليس الحزن هو البادي على وجهي بل الغيظ !
لماذا تتحدّث عن وليد أمامي ؟؟ و لماذا يتحدّث إليها وليد عن أمي ؟
أو عن أي شيء آخر في الدنيا ؟؟ هذه الدخيلة لا تمت إلينا بصلة
و لا أريد لمواضيعنا أن تذكر على مسمع منها ...
وليد كان يمشي مقبلا نحونا.. و حين وصل
شبكت أروى ذراعها اليمنى بذراعه اليسرى و هي تبتسم بسرور ...
وقفت أنا أنظر إليهما بغيظ و تحذير ! ما لم تفرقا ذراعيكما عن بعض فسأقطعهما !
لم يفهما تحذيري، بل سارا جنبا إلى جنب على هذا الوضع..
سرت أنا إلى الجانب الأيمن من وليد... و سرنا و نحن ندوس على ظلالنا..
و التي يظهر فيها جليا تشابك ذراعيهما ..
حسنا ! من تظن هذه نفسها ؟ وليد ابن عمّي أنا و ولي أمري أنا!
و بدون تفكير، رفعت أنا ذراعي و أمسكت بذراع وليد اليمني بنفس الطريقة
و بكل تحدي !
وليد نظر إلي بسرعة و بنفس السرعة أضاع أنظاره في الرمال التي نسير فوقها...
و بدا وجهه محمرا ! لكنه لم يسحب ذراعه مني ..
تابعنا السير و أنا أراقب الظل أمامي... و لم أترك يده حتّى فعلت هي ذلك... !
صحيح أن الفطور كان شهيا ألا أنني أصبت بعسر هضم من مشاهدة العلاقة الحميمة
بين وليد و أروى.. كانا يجلسان متقابلين، و تجلس أم أروى على رأس المائدة
و أنا إلى جانب وليد، أما العجوز فلم يكن معنا بطبيعة الحال...
لا أريد منهما أن يجلسا متقابلين، و لا متجاورين، و لا في نفس المنزل
و لا حتى نفس الكوكب..
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
فيما بعد، عاد وليد للعمل في المزرعة و أروى تشاركه ، و أنا أتفرّج عليهما بغضب.. و أحاول الإنصات جيدا لكل ما يقولان..
أراد وليد بعد ذلك الذهاب إلى مكان ما لإحضار بعض الأشياء
و سألني إن كنت أرغب في مرافقته، أجبت بسرعة :
" طبعا سأذهب معك ! هل ستتركني وحدي ؟؟"
أتذكرون سيارة الحوض الزرقاء التي ركبتها ذات يوم، للذهاب إلى المستوصف ؟
إنها هي.. نفس السيارة التي يحتاجها وليد في مشواره.
فيما كنا نقترب منها أقبلت أروى مرتدية عباءتها و وشاحها الملون، قائلة :
" أوصلني للسوق سأشتري بعض الحاجيات "
و اقتربت من الباب و فتحته، فسار وليد نحو باب المقود..
و قبل أن ترفع أروى رجلها إلى العتبة، أسرعت أنا و ركبت السيارة لأجلس فاصلا بينهما!
هذا ابن عمي أنا.. و أنا الأقرب إليه من كل بنات حواء ، و أبناء آدم أيضا ... أليس كذلك ؟؟
و من السوق اشتريت أنا أيضا بعض الأشياء، من ضمنها عدّة للرسم
فالمزرعة و مناظرها البديعة أعجبتني كثيرا ..
و لسوف أقضي صباح الغد في رسم مناظر خلابة منها ، عوضا عن مراقبة وليد و هو يعمل...
عندما عدنا ، وجدنا ترتيب أثاث الصالة قد تغيّر، لقد قام العجوز
و أخته بنقل المقاعد من المجلس إلى الصالة، و نقل سرير وليد من الغرفة الخارجية إلى المجلس !
استغرب.. أي قوّة يملك هذا العجوز ليحرك هذه الأثقال !
ما شاء الله !
قالت أم أروى :
" ها قد أصبحت لديك غرفة داخلية يا وليد.. هل تحس بالاطمئنان على ابنة عمّك الآن ؟؟ "
وليد ابتسم، و وجهه متورد .. و شكر الاثنين .. ثم التفت إلي و قال :
كنت أقف إلى جواره .. رفعت رأسي و همست في أذنه :
" لكن ابق الباب مفتوحا "
وليد ابتسم، و قال :
" حاضر "
همست :
" و اطلب منهم إعادة أحد المقعدين الكبيرين للداخل، أو قم أنت بذلك "
وليد تعجّب و قال :
" لم ؟ "
قلت :
" احتياط ! ربما تظهر الأشباح ثانية "
ضحك وليد، و البقية أخذوا ينظرون إليه باستغراب !
قال :
" حاضر ! "
قلت هامسة :
" قبل الليل "
قال :
" حاضر سيدتي ! كما تأمرين .."
و حين يقول وليد قلبي ذلك.. فأنا أشعر بدغدغة ناعمة تسري في جسدي ابتداء من باطن قدمي ّ و حتى رموش عيني ّ !
و من أطراف تلك الرموش ألقيت بنظرة حادة على أروى و أنا أخاطبها في رأسي :
" أرأيت ِ ؟ ستعرفين من تكون رغد بالنسبة لوليد.. و لن أكون رغد ما لم أزيحك عن طريقي ! "
~ ~ ~ ~ ~ ~
مضت الأيام هادئة و مستقرة ، و انشغالي بالعمل جعلني أتناسى وفاة والدي ّ
و الحزن الذي خلّفه...
بصعوبة تمكنت من إقناع رغد بالبقاء في المزرعة أثناء غيابي كل يوم في فترة الدراسة..
و لأنها كانت فترة صباحية، و لخمسة أيام في الأسبوع، فإننا لم نعد نلتقي إلا عند الظهيرة...
و أثناء عملي في الحقل، تقوم هي بمراقبتي أو برسم بعض اللوحات..
بينما أروى تساعدني أو تساعد أمها في شؤون المنزل..
رد: *¤•° أنــت لــــــــــي.. قصه رائعه جداً مستمرة °•¤*
أنا كنت أقوم بعمل مضاعف و بأقصى ما أمكنني ، و لساعات أطول..
و رسمت بعض الخطط لتطوير المزرعة و الاستعانة ببعض العماّل الثابتين..
رغد بدأت تتأقلم مع العائلة و تشعر بالانتماء إليها بعد فترة من الزمن..
و صارت تساهم في بعض أعمال المنزل البسيطة، و التي لم أكن أنا أريد تحميلها عبئها
لولا أن الظروف قضت بذلك..
تعذّر علينا زيارة سامر نهاية الأسبوع الأول، ألا أننا زرناه في الأسبوع التالي، و في الواقع..
خرجت من تلك الزيارة متضايقا لما أثارته في قلبي من الذكرى الأليمة .. ذكرى والدي ّ..
سامر لم يبد أنه خرج من الأزمة بعد.. بل كان غارقا في الحزن..
و حتى زيارتنا له لم تحرز تقدما معه..
أما دانة ، فاتصلت بها مرات ثلاث خلال الأسبوعين
و أعطتني الانطباع بأنها امتصت الصدمة و في طور النقاهة..
عدا عن ذلك ، فهي سعيدة و مرتاحة مع زوجها و عائلته في تلك البلد..
أوضاع بلادنا لم تتحسن، بل بقيت بين كر و فر..مد و جزر.. أمدا طويلا..
الشيء الذي بدأ يقلقني هو الملاحظة التي أبدتها لي أروى إذ قالت :
" يبدو أن رغد تعاني اضطرابا نفسيا يا وليد.. إنها لا تنام بسهولة..
بل تبقى لما لا يقل عن الساعة تتقلب في الفراش، و أحيانا تجلس..
و تنهض.. و تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في توتر.. و في أحيان أخرى، أسمعها تتحدّث أثناء النوم..
أو تصحو و تبكي و تنادي أمها ! أعتقد أن وفاة والدتها قد أثرت عليها كثيرا .. "
سألتها يومها :
" هل يتكرر ذلك كثيرا ؟؟ "
" تقريبا كل ليلة ! كما و أنها تصر على إبقاء مصباح النوم مضاء ً
بينما أنزعج أنا من النوم مع وجود النور ! "
هذه الأمور لاحظتها أروى التي تشارك رغد في الغرفة
و التي يبدو أنها تعاني منها منذ فترة دون أن يلحظها أحد...
و هذه الأمور جعلتني أقلق بشأنها.. و أفكر في طريقة تجعلها تنام بطمأنينة و نوما هادئا..
و هداني الله إلى هذه الفكرة...
عندما كانت صغيرة ، رغد كانت تعشق سماع القصص..
و تطالبني بها كل ليلة حتى تنام بهدوء و قرّة عين..
و لأنها كبرت الآن، فلم يعد هناك مجال لتك القصص! و لكن..
لدينا كتاب هو أجل و أعظم من أي كتاب، و بذكر ما فيه تطمئن القلوب.. إنه القرآن.
في كل ليلةقبيل نومهما أبقى مع رغد و أروى في غرفتهما و أتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم ..
و تظل رغد منصتة إلي، إلى أن يغلبها النعاس فتنام بهدوء و سكينة..
في إحدى الليالي، و بعدما نامت رغد، خرجنا أنا و أروى من الغرفة ..
لم نكن نشعر بالنعاس وقتها، فطلبت مني أروى القيام بجولة قصيرة معها في المزرعة ..
" لكن.. رغد تمانع خروجي و هي بالداخل، أو دخولي و هي بالخارج.. "
" لكنها نائمة الآن "
" نعم و لكن .. "
" هيا يا وليد ! إننا لم نتحدّث مع بعضنا منذ حضورها ! لم تفارقك ساعة واحدة إلا للنوم ! "
استأت من كلام أروى و قلت :
" أرجو ألا يكون وجودها قد أزعجك بشيء ؟ "
" لا لا ، لا تسىء فهمي، أقصد أنني أريد التحدث معك حديثا خاصا بنا أنا و أنت ! كأي خطيبين.. "
و أمسكت بيدي و حثّتني على السير معها إلى الخارج...
حديثنا كان في بعض شؤوننا الخاصة.. و كانت أروى تتكلم بسرور ..
بل كانت في قمّة السعادة.. و أخذنا الحديث لساعة من الزمن..
فجأة ، سمعت صوت رغد يناديني ...
" وليــــــــــد "
سحبت يدي من يد أروى و ركضت مسرعا نحو المنزل ...
رغد كانت تقف في الساحة الأمامية تتلفت يمنة و يسرة..
" أنا هنا رغد "
و لوّحت بيدي، و أنا راكض باتجاهها...
لما رأتني رغد... وضعت يدها على صدرها و تنهدّت بقوة...
و حين صرت أمامها مباشرة، أمكنني رؤية علامات الفزع على وجهها و الذعر المنطلق من عينيها...
" صغيرتي ماذا حصل ؟؟ "
" إلى أين ذهبت ؟؟ "
" هنا في المزرعة، أتمشى قليلا "