لا ننتظر من منافسيك ومدّعي الألوهية أيّ مساعدة أو معونة، ذلك أنّ السبب الذي دعا هؤلاء لرفض ألوهية الله يجعلهم لا يساعدون عباده السائرين على صراطه. إنّ طريق الله هو طريق أنبيائه، طريق الحق والعدل والتآخي والتضامن والتعايش بين جميع أفراد البشر، واعطاء الإنسان قيمته، ورفض التعصب والظلم والتمايز. وأمّا أضداد الله ومدّعو الربوبية فقد وضعوا جميع مخططاتهم في حياتهم الدنيئة وما سرقوه من ثروات في تهديم القيم والمقدّرات الأصيلة؛ فكيف يمكن أن يمدّوا يد العون والمساعدة لعباد الله؟! إنّ هؤلاء حرب لا هوادة فيها على عباد الله.
فإذن نطلب العون من الله فقط؛ من قوّة الذكاء والإرادة التي أودعها فينا، من الأسباب والوسائل التي وضعت بأيدينا، من السنن والقوانين الطبيعية والتاريخية التي لو عرفت أمكن أن تكوّن الطريق المشرع بوجه العلم والعمل، ومن جميع المنح والقدرات التي تعدّ من جيوشه المقتدرة الموضوعة في خدمة البشر.
اهدنا الصراط المستقيم
لو كان الإنسان محتاجاً إلى شيء أهم وأولى من الهداية، فلاشك أنّ هذا هو ما ذكر في سورة الحمد، وهي ديباجة القرآن والقسم المهم في الصلاة بلسان الدعاء والطلب من الله. بالهداية الإلهية يقع العقل والتجربة في الطريق الصحيح والمفيد والمنجي، ودون ذلك يغدو هذا العقل والتجربة مصباحاً في يد قاطع الطريق أو شفرة بيد المجنون.
اهدنا الصراط المستقيم، هو ذلك المخطط الفطري، البرنامج الذي وضع على أساس من الاستنتاج الصحيح لاحتياجات الإنسان الطبيعية وإمكاناته وقدراته، الطريق الذي مهده أنبياء الله للناس، وكانوا هم أوائل الباحثين والسابقين إلى الحقيقة، الطريق الذي إن استقر الناس فيه يكون مثلهم كالماء الذي يجري مستقيماً في مجراه ويتجه ذاتياً ودون استعانة بقوّة أو قدرة نحو هدفه النهائي، ألا وهو بحر التسامي الإنساني المتلاطم، برنامج لو اتخذ قالباً للنظام الاجتماعي وطبّق في حياة البشر لجلب لهم ـ حقّاً ـ الرفاه والاستقرار والحرية والتعاون والتكافل والإخاء، ولوضع حداً لجميع المآسي البشرية المزمنة.
ولكن ما هو هذا البرنامج وهذا الطريق؟ الكلّ مدّع في هذا السوق المزدحم، ويرى كل فريق غيره على خطأ، فيجب أن تحدد الإشارة المناسبة لهذه الديباجة القصيرة للصراط المستقيم من وجهة نظر القرآن، لذا تستمر السورة بهذا النحو:
صراط الذين أنعمت عليهم
من هم أولئك الذين شملتهم نعمة الله وحصلوا عليها؟ لاشك في أنّه ليس المراد من النعمة المال والجاه واللذة المادية؛ إذ إنّ أبرز أمثلة الحاصلين عليها هم دائماً من ألدّ أعداء الله وخلقه، بل المراد بها نعمة أكبر من هذه الزخارف؛ إنّها نعمة اللطف والعناية وهداية الله، نعمة معرفة القيم الواقعية للنفس واستعادة الذات.
وفي موضع آخر عرّف القرآن الكريم الحاصلين على هذه النعمة: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين…}[1].
فإذن يطلب المصلي في هذه الجملة من الله أن يهديه إلى صراط الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وهذا خطّ واضح على طول التاريخ، وهو طريق لاحب ذوهدف معيّن وسائرون معروفون.
وفي مقابله خطّ آخر، وهو واضح أيضاً، وله أتباع مشخصون، وبذكر ذلك الطريق وسالكيه يهيب المصلي بنفسه ويحذّرها أن تطأ ذلك الطريق أو أن تنحرف نحوه، وهذا ما يبيّنه في تتمة الدعاء السابق بهذا الشكل.
غير المغضوب عليهم
من هم الذين غضب الله عليهم؟ هم الذين وضعوا أقدامهم في الطريق الآخر المخالف لطريق الله وجرّوا الكثير من الناس الآخرين الغافلين من فاقدي الإرادة والضعفاء أو الواعين ولكنّهم أجبروهم بالقوّة على السير في هذا الطريق. إنّ الذين أمسكوا على طول التاريخ بزمام أمور الناس عن طريق القهر والجبروت والخداع والنفاق، وصنعوا منهم كائنات مجبرة وآلات تابعة (مستضعفة)، الذين أعدّوا وفسحوا المجال للرذيلة والعلاقات الداعرة عن طريق استغفال الناس والتسلط عليهم.
بعبارة أخرى: إنّ الأشخاص الذين صاروا مورداً لغضب الله هم الذين سلكوا طريق الضلال، لا عن جهل وغفلة، بل عناداً، وبسبب الأنانية وحبّ الذات.
في الواقع التاريخي كانت هذه المجموعة تتشكل من الطبقات الغنية والمقتدرة، التي كانت دائماً مستهدفة من قبل الفصائل الدينية، وكانت أهداف الدين ترسم خطّ بطلان فلسفة وجودهم، وكانت أول خطوة تخطوها تلك الفصائل هي خطوة الاعتراض عليهم.
وغير هاتين المجموعتين: مجموعة المهديين ومجموعة المغضوب عليهم، هناك أيضاً مجموعة ثالثة ينتهي بها الطريق إلى نفس ما ينتهي إليه المغضوب عليهم[2]. الجملة التالية تشير لهذه المجموعة من الناس:
ولا الضالين
الذين سلكوا عن جهل وغفلة ـ متابعةً لأسيادهم المضلين ـ طريقاً غير طريق الله والحقيقة، في حين أنّهم كانوا يظنون أنّهم سائرون في الطريق الصحيح، مع أنّهم يخطون في طريق خطر، ويتجهون إلى نهاية مرّة.
هذه المجموعة أيضاً يمكن مشاهدتها في التاريخ بوضوح؛ إنهم كل الذين كانوا يمتثلون لأوامر أسادهم في النظم الجاهلية، ويطيعونهم إطاعة عمياء، وكانوا من أجلهم يخطئون الذين ينادون بالحق والعدل ويهتفون بدين الله، وحتى إنّهم يقفون بوجههم أحياناً، ثم لا يسمحون لأنفسهم ولو لحظة واحدة لأن يجددوا فيها النظر بهذا الطريق الذي سلكوه عن جهل.
ونحن نسمي هذا الأمر جهلاً لأنّه يحقق مصالح الطبقات المستكبرة، ويدمّر هؤلاء الضالين أنفسهم؛ وعلى العكس فإنّ دعوة الرسل تستأصل شأفة الفئة المغضوب عليها وتعمل طبقاً لأجل الطبقات المحرومة والمستضعفة، ومن ضمنها هؤلاء المغفلون.
إنّ المصلي باستذكاره الحالتين حالة (المغضوب عليهم) وحالة (الضالين) تنشأ لديه حالة الحساسية والدّقّة في تحديد الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، والموقف الذي يجب اتخاذه تجاه الصلاة المنقذة التي يدعو إليها الأنبياء، وعندها إذا رأى في سلوكه الحياتي علاقة تدلّ على الرشد والعثور على الطريق، يلهج ثانية شاكراً لهذه النعمة الكبيرة قائلاً: {الحمد لله رب العالمين}[3].
وبذلك ينهي جزءاً مهماً في الصلاة.
كانت هذه بداية القرآن التي تلاها (فاتحة الكتاب).
ديباجة القرآن ـ كديباجة كل كتاب ـ تعطي صورة عامة لمجموع معارف الكتاب، فكما أنّ الصلاة خلاصة وصورة مصغرة للإسلام، أشير فيها إلى الكثير من الجوانب والنقاط البارزة لآيديولوجية الإسلام، فإن سورة الفاتحة أيضاً هي فهرست للنقاط البارزة والخطوط العريضة لمعارف القرآن والمشتملة على خلاصة التوجيهات المهمة فيه، ولذا:
فإنّ العالمين والعالم شيء واحد متصل أنشأه ذلك الإله {رب العالمين}. كل شيء وكل شخص واقع تحت رحمة الله وعطفه، وأمّا المؤمنون فلهم رحمة ولطف خاص منه: {الرحمن الرحيم}.
إنّ حياة الإنسان مستمرة بعد هذا العالم، وإنّ الحاكمية المطلقة هناك لله: {مالك يوم الدين}، وعلى الإنسان أن يتحرر من عبودية غير الله، وأن يحيا تحت ظل رعاية الله، بالخصائص الإنسانية وفي طريق الإنسانية، حراً مختاراً: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
عليه أن يلتمس طريق السعادة والصراط المستقيم في حياته من الله: {اهدنا الصراط المستقيم}، عليه أن يشخّص جهة الأعداء والأصدقاء، وأن يتعرف أفكارهم واستراتيجيتهم ليحدد موقفه من كلتا الجبهتين بما يمليه عليه إيمانه: {صراط الذين أنعمت عليهم…}.
سورة التوحيد
بعد إتمام هذه المناجاة المربية المليئة بالمحتوى، على المصلي أن يتلو سورة كاملة من القرآن.
هذه التلاوة جزء من القرآن ينتخبه المصلي بحريته وإرادته، يفتح بوجهه فصلاً آخر من المعارف الإلهية الإسلامية.
فريضة تلاوة القرآن في الصلاة ـ كما قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في حديث الفضل بن شاذان: إنّما أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيّعاً ويكون مدروساً ولا يضمحل ولا يجهل.
نكتفي هنا بالإشارة إلى سورة التوحيد المتعارف تلاوتها في الصلوات.
بسم الله الرحمن الرحيم
قل
يا أيّها الرسول واعتقد وبلّغ الآخرين بهذه الحقيقة.
هو الله أحد
ليس له شريك ولا مثيل ولا منافس كالذي تعرفه عقائد الأديان المنحرفة.
ليست ساحة الخليقة مسرحاً لتنازع الآلهة وحربهم، بل إنّ جميع سنن العالم وقوانينه صادرة عن إرادة واحدة وقدرة واحدة، ولذا يسود عالم الخليقة النظام والاتساق؛ فجميع القوانين والتحولات والتحركات الطبيعية في العالم تتحرك باتجاه واحد. الإنسان وحده ـ الذي متّعه الله بالإرادة والاختيار والقدرة على التصميم ـ يمكنه أن يتمرد على هذا النظام ويعزف لحناً شاذاً مخالفاً للعزف الجماعي، كما يمكنه أيضاً أن يصنع لنفسه حياة تنسجم مع قوانين الوجود.
الله الصمد
ليس الله بحاجة إلى شيء أو أحد، فأنا أتواضع أمامه وأعظمه وأحمده ليس كباقي الأرباب المحتاجة في إيجادها واستمرارها في الحياة وقدرتها إلى رعاية غيرها، فإن إلهاً كهذه لا يستحق التكريم والتعظيم من قبل الإنسان، إذ إنّه موجود كالإنسان أو أدنى منه؛ فالإنسان هذا الموجود العظيم والعميق لا ينبغي له أن يعظم سوى قدرة ليست محتاجة لأدنى احتياج إلى أيّ وجود وأي عنصر، لأنّ وجودها وقدرتها وخلودها نابع من ذاتها.
لم يلد
إنّه ليس كما ذكرته الأديان الخرافية والمنحرفة والعقائد المشركة، ليس إله المسيحيين والمشركين الذين تصوروا له ولداً أو أولاداً؛ إنّه خالق كل شيء وكل شخص، لا أنّه أبوهم، بل كلّ سكان السموات والأرض هم عباده لا أولاده.
إنّ نسبة الربوبية والعبودية بين الله والإنسان هي التي تمنع عباد الله الواقعيين من عبادة أي شيء أو أحد غير الله، إذ إنّ عبادة إلهين غير ممكنة.
إنّ الذين جعلوا الله أباً عطوفاً للخلائق، وأن البشر هم أولاده، لم تتّضح لهم حقيقة عبودية الإنسان لله، وإنّها مقام تكريم لهذا الإنسان؛ إنّهم في الحقيقة قد فتحوا طريقاً لعبادة غير الله، وأصبحوا عملياً عبيداً للكثير من أرباب الدّنيا ممّن نزعت منهم المروءة، وصاروا آلة بيد النخاسين من باعة الرقيق.
ولم يولد
فهو ليس حادثاً لم يكن في وقت ثم جاء إلى ساحة الوجود، وليس هو وليد أحد أو فكرة أو اعتقاد، وليس وليد نظام أو طبقة أو شكل من أشكال حياة البشر؛ إنّه أكرم الحقائق وأسماها، إنّه حقيقة أزلية، كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد.
ولم يكن له كفواً أحد
ليس له مثيل ولا يمكن أن يشبهه شيء، لا يمكن تقسيم مناطق نفوذه ومناطق حكمه (وهي عالم الكون بأجمعه) بينه وبين شخص آخر، ولا يمكن أن يكون جزء من حياة الإنسان له والآخر لغيره من الأرباب الأحياء وغير الأحياء، ومن مدعي القدرة والألوهية.
هذه السورة هي منجهة تعرف المسلمين وجميع العالمين الإله الذي يستحق العبادة والتمجيد بنظر الإسلام، وأنّ الإله الذي لا يكون أوحد، ويكون له مئات وآلاف المشاكلين في العالم، ليس جديراً بالربوبية والألوهية؛ إنّ القدرة المحتاجة لاستمرارها إلى موجود آخر لا يمكن ولا ينبغي أن تفرض على البشر. إنّ الذي يعظم الأرباب الواهية المحتاجة والمحدثة والزائلة وينحني لها يسحق كرامته الإنسانية ويسقّط نفسه والإنسانية. هذه هي الجهة الإيجابية في سورة التوحيد التي تستعرض مميزات المعبود وربّ الإنسان، وتثبت بطلان الأرباب على طول التاريخ.
ومن جهة أخرى، تحذر عباد الله والمسلمين من تدنيس أنفسهم بالنظر الفلسفي الذي يولّد الشبهات والوساوس بشأن ذات الله وصفاته، وأن يذكروا الله ويدعوه بكلام بسيط، يمكن به طرد المدّعين والمبطلين من المقام القدسي للربوبية بدلاً من أن يستغرق الإنسان في الفلسفة والذهنيات عليه أن يفكر في الالتزامات النابعة من عقيدة التوحيد.
وكما جاء في حديث الإمام علي بن الحسين (ع): "إن الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل الله تعالى {قل هو الله أحد} والآيات من سورة الحديد إلى قوله: {عليم بذات الصدور}، فمن رام وراء ذلك فقد هلك"[4].
كأنّما تقول هذه السورة {قل هو الله أحد} للمصلي: إنّ الله قدرة فريدة وعالية، وهو مستغن ذاتاً وغير محتاج {لم يلد ولم يولد} وليس له مشابه ومشاكل و... هذا وكفى. والعلم والرؤية والحكمة وباقي صفات الله التي يكون فهم المسلم لها واجباً، وتكون مؤثرة في حياته وعروج روحه، ذكرت أيضاً في آيات أخرى من القرآن، ولا تتعمق أكثر من هذا في ذات الله وكيفية صفاته. إنّك ستحصل على معرفة أكثر خلال العمل. لا تتصور أنّك ستحصل على معرفة أكثر بالبحث والتنقيب الذهني العميق، بل حاول تحصيل المعرفة عن طريق التحلي بالصفاء وروحانية الباطن والروح عن طريق العمل بمستلزمات التوحيد. وهكذا كان الأنبياء والصديقون؛ إنهم عباد الله الحقيقيون، والموحدون والصادقون والعارفون.
يتبع ,,,,