السنوات انقضت و لم يبق لي في هذا المكان إلا بضعة خطوات هي آخر خيوط العتمة في حياتي . . مازالت ذكرى اليوم الأول تلامس وجداني و تحفر أعماقي مخلفة جراحا دامية لا تندمل .. قبل عشر سنين .. أمضيت هنا أول ليلة .. محملاً بهموم الدنيا و مصائبها .. ممزق الأحشاء .. مشتت الفكر .. أندب حظي العاثر .. و أشكو نفسي لنفسي .. الحيطان كثيرة في هذا المكان .. أينما ألتفت أجد جدارا عابسا يحاصرني .. و يصرخ فيّا .. أدفن وجهي في أعماق الوسادة البالية هربا من الظلمة و إليها أهرب .. أتمنى أن أفتح عيني .. لأجد أني استيقظت من هذا الكابوس
تتمثل لي أمي بوجهها الباسم تناديني لوجبة الغداء .. الجميع بانتظاري على المائدة .. أختي الصغرى تتباكى احتجاجا على منع أمي لها مشاهدة مسلسلها الكرتوني المفضل فلا أحظر حتى تأتيني راكضة بدلال .. لترتمي في حضني .. و بابتسامة طفولية ( أختي أنا أحبك ) و هي تنظر إلى أمي تارة و إلى التلفزيون أخرى .. فأعرف ما تريد .. و تضحك أمي ثم تنصرف إلى تجهيز المائدة .. كم اشتاق إليك يا أمي و كم أتمزق شوقا لك .. يا أختي .. آه يا أختي . . ترى هل سأرجع لأراك تلعبين كما تركتك .. أم أني سأرجع لأرى فتاة ناضجة جاوزت الربيع السادس. . أي عذاب أقسى من هذا .. ؟ و أي مصيبة أكبر من هذه ..؟ أنا أتمزق هنا .. كشاطئ بعيد . . تأكل من صموده وحوش الأمواج .. و تكسر في شموخه أشعة الشمس الحارقة .. لينتهي وحيدا باكيا يتأوه في سكون الأموات ..
كل ما في هذا المكان عنوان للكآبة و الحزن .. الدموع و الآهات و الحسرات مبعثرة على الجدران .. الأسرّة ينبيك أنينها عن عشرات الضحايا السابقين .. .. و البصمات على القضبان كأنها تحكي قصص معاناة طويلة مع أيدي المثكولين بحريتهم .. .. وجوه ذابلة من أثر أقدام الأيام عليها .. و أجساد لا تحمل أي دلالة على الحياة سوى بعض الزفرات التائهة .. .. و أنا وسط هذا المد الهائل من السواد .. أفنيت زهرة شبابي .. و أجمل أيام حياتي في ركن مظلم أتلوى في عزلتي و شرودي .. .. ما بين سهام اليأس و حراب الخوف .. و كلما حاولت أن أمني نفسي بالمستقبل .. يأتي الواقع بكل جحافله يكسر ما بنيت من آمال .. و يحرق ما تبقى لي من أحلام .. ..
لم يبقى لي إلا عدة خطوات .. و أحسبني سأموت قبل أن تنقضي ..
كم أنا مشتاقة إليك أيها الخارج ..
أيتها الحرية .. .. ..
يا ملاكي الذي أجهضته سنين اليأس .. و الذل في هذا المنفى ..
نعم أنا مشتاقة .. و لكن إلآمَ ؟
إلى عالم مت عنه عشر سنين ؟ أي غربة و أي وحشة و أي ضياع هذا الذي أعيش .. ..
لا أعلم .. هل هذه الخطوات .. هي رحلتي من الموت أم إليه .. ..
هل هي الخلاص أم الهلاك الدائم .. لا أعلم ..
بالأمس كنت أعيش على أمل الغد .. و هذا هو غدي الذي كنت أحلم .. أتاني أخيرا .. لــــكنه أتاني متأخرا .. .. متأخرا جدا ..
الآن أتيت ؟ تأخرت .. و يا أسفاه تأخرت .. .. لماذا أتيت .؟ أأتيت لتقضي على آخر نبض في هذا القلب المنكسر ؟
لقد كان لديه أمل وحيد يعيش لأجله ..و يتجرع الألم و الآه في سبيل تحقيقه .. ..
و أتيت أنت .. لتسحق الزهرة الصغيرة التي كانت تقاوم براكين اليأس في جوفه . .
قد كنت أمني نفسي بأمل الهروب من العزلة و الانسلاخ من الأمس ..
و عشت على هذا الأمل زمانا طويلا عانيت فيه الأمرين .. و الآن و بعد أن أتيت .. لا أجد ما أعيش لأجله ..
لأنك قتلت أملي يا أمل الأمس
بقلمي ..
الأمل البعيد
