شفيق محمد المغاسلة
حواسي لا تخطيء
الانسان يملك قوى مختلفة وهبها الله تعالى إياه، فكما يمتلك قوة الحفظ، يمتلك قوة النسيان، وكما يمتلك قوة الشجاعة يمتلك قوة الجبن، وهناك أزواج من القوى المتعددة والمتضادة، قوى ممدوحة وقوى مذمومة، قوى خير وقوى شر، فإذا تمكنت قوى الخير من التحكم في قوى الشر ابتعد الإنسان عن الخطأ والزلل، وأرتقى بعقله على سائر الكائنات. وإذا تعادلت فحاله حال البهائم لا خير ولا شر، أما إذا تمكنت قوى الشر من التحكم في قوى الخير، وقع في الخطأ والزلل وأصبح أردى من البهائم.
لماذا تخطيء؟
تخيل نفسك مستلقٍ تريد النوم وبجانبك ميت ليلة دفنه في غرفة لا نور فيها، ماذا تخالجك من أفكار؟ إن استخدمت القوى الحسية؛ فضلاً عن العاقلة؛ تراه ميتاً لا يقوى على شيء، تراه بالقوى الحسية صورةً لجسم ميت كالخشبة اليابسة، وتسترجع صورته ميتاً بالخيال [1] ، ويحضر لك معنً لموته بالقوة الواهمة [2] ، فهو بهذه القوى العقلية ميت لا حول له ولا قوة.
لكن بقية القوى لا تدعك، فإن رضخت لها، تدخلت لتصور لك ألف صورة وصورة، فتوهم ناظرك بأنه تنفس فرفع صدره، وربما أوهمتك بأنه رفع يده من الأرض وحط بها على بطنه، أو أنه حرك قدمه، وربما تسمع منه صوت السعال. وإن أغمضت عينك فيا لهول ما تصورت، قام لك الميت ليكلمك أو ليدبحك.
إذا، فالقوى الشريرة؛ وحتى الخيِّرة؛ المتعددة هي التي تحرف الإنسان عن الصواب بتحكمها بالقوة العاقلة؛ قوى التفكير ومراحله؛ فكل قوة تحاول أن تصور للإنسان "المتذاكي" ألف صورة لتجره عن جادة الصواب.
الخطأ في الإحساس:
هل تتصور أن تخطأ في الإحساسات التي تنقل إلى ذهنك عن طريق الحواس، فأنت تنظر لصور الأشياء مباشرة فترى الشجر والحجر والمدر، وتلمس الأشياء حارها وباردها، وتتذوق الطعام حلوه ومره، وكل هذه الاحساسات إحساسات أولية وبعضها فطري. فهل بالإمكان الخطأ في الحس، أو الخطأ في العلم الحضوري؟
اقرأ الجمل الثلاث في المثلثات الثلاثة في الشكل التالي:
لعلك قرأت الجمل هكذا:
عصفور في اليد
مرة في العمر
إبليس في النار؟... أليس كذلك؟
لعلك لم تلاحظ تكرار حرف الجر "في" في كل من الجمل الثلاث؟... كيف أخطأت؟
أألغت القوة الباصرة صورة حرف الجر هذا أم ألغته قوة أخرى؟. بلى، تدخلت قوة الخيال فاختزلت حرفي الجر في حرف واحد، يا لهول هذا الإنسان يخطأ في الحس وهي مرحلة بدائية جداً لتلقي العلم. فهل تعلم ما الذي حصل وقرأت خطأً؟
لم تتكرر صورة حرف الجر "في" في ذهنك مع أنك رأيتها قطعاً جزماً، لكن عقلك ترجمها بالاعتماد على قوة الخيال؛ التي لم تعتاد على تكرار ذلك الحرف فلم تسجل شكلاً مثل هذا: " في في " كحرف جر.
جرب لمس النار
المواد المطلوبة: ماء بارد. ماء حار. ماء فاتر بين الاثنين.
1. ضع يدك في الماء الحار، تحسس الماء وخذ منه طاقة الحرارة حتى تسخن يدك بالمقدار الذي تتحمله، وانتبه لا تحرق يدك أو تؤذي نفسك!. بعدها ضع يدك الحارة في الماء الفاتر. ماذا تشعر؟ هل الماء بارد أم لا؟ نعم إنك تشعر بأن الماء بارد.
إذاً فإن الماء "الفاتر" لم يعد "عند إحساسك" فاتراً، بل حكمت عليه عن طريق حاستك اللامسة بأنه بارد.
2. وقبل هذه الخطوة الثانية، عليك أن تصبر بعض الوقت حتى يعود شعورك بالحرارة والبرودة شعوراً طبيعياً. ثم ضع يدك في الماء البارد هذه المرة حتى تشعر ببرودة الماء وكأن الماء ويدك بمقدار واحد من درجة البرودة التي تتحملها. بعدها ضع يدك الباردة في الماء الفاتر. ماذا تشعر؟ هل الماء حار أم لا؟ نعم إنك تشعر بأن الماء حار.
إذاً فإن الماء "الفاتر" لم يعد "عند إحساسك" فاتراً، بل حكمت عليه؛ عن طريق حاستك اللامسة؛ بأنه حار.
كيف حدث ذلك؟ الماء الفاتر، مرة تقول لنا بأنه حار ومرة بارد!! والماء هو هو لم يتغير. إذا فإمكانية خطأ الإحساس واردة وممكنة الحدوث. والمشكلة في بعض الأحيان بأن خطأ الإحساس يتكرر، ولا يتعلم منه الإنسان، ولا يدرك بأنه خطأ.
الحاسة الذائقة
خير مثال يبين تكرار خطأ الإحساس، وعدم تعلم الإنسان منه، وعدم إدراكه الخطأ في هذه التجربة:
عند تذوقنا شراب لا سكر فيه، ثم تذوقنا لشراب فيه نزر يسير من السكر، هل سيبدو لنا الثاني بأن طعمه حلو تام أم لا؟ نعم.
بالمقابل عند تذوقنا شراب به كثير من السكر، ثم تذوقنا الشراب ذي النزر اليسير من السكر، هل سيبدو لنا الثاني بأن طعمه يخلو من السكر أم لا؟ نعم.
ما معنى ذلك كله؟ معنى ذلك بأن بعض إحساساتنا المتمثلة بالعلم الحضوري لا تسجل في ذاكرتنا، بل لا حاجة لتسجيلها، لمعرفتنا بالحلو والمر، والحار والبارد، ولمعرفتنا بالروائح الكريهة من العطرة. والذي يحصل من تمييزنا بين هذه الامور هو علمنا بمعانيها بمجرد الإحساس بها، وإلا كيف نشعر بالمادة ذاتها بشعورين ضدين؟.
إذاً حواسك تخطيء يا أيها الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
[1] قوة الخيال هي القوة التي يسترجع العقل بها الصور المحفوظة في الذاكرة.
[2] قوة الوهم هي القوة التي يسترجع العقل بها المعاني المحفوظة في الذاكرة.
