المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرشف ابيض



شاهزنان
02-03-2004, 06:33 AM
شرشف ابيض

بسمة فتحي

أمقت زيارة المستشفيات، ربما لا أكرهها هي بذاتها ولا برائحة أمقت زيارة المستشفيات، ربما لا أكرهها هي بذاتها ولا برائحة معقماتها النفاذة التي تحفِّز صدري للسعال، ولا لصورتي المنعكسة عن رخام أرضياتها المصقولة جيداً والتي تؤكد لي إحساسي بأن خطأ ما هناك في وجهي، لم أجده بعد..!، ولا أكرهها لأجل وجباتها كثيرة العلب، معتدلة السخونة، قليلة الملح، والتي تذكرني بالمَثَل الذي تردده أمي حين تتذوق (طبيخ دِلِعْ) :"سيدة البيت البخيلة، أكلها –دائماً- ينقصه الملح"، ولا لأنها آخر مكان رأيت وجه "سندس" وقبّلتُ فيه يدها الطرية الناعمة...ولا لأنني بعد إحدى الزيارات رمى بِيَ "بَخْتي" لمساعدة فتاة سمراء تتلألأ في وجهها عينان سوداوان واسعتان، الكُحل فيهما بذخٌ زائد. "عيناكِ جميلتان" هذا ما قلت لها حين ،أغمضتُ يدي على بعض المال ودسسته في كفها المتشقق برداً، مسكينة، البرد يقصُّ المِسمار في ذلك الوقت من السنة، انفرجت عيناها أكثر حال ملامسة يدها لورقة النقود وأخذ فمها يقذف كلمات مصفوفة بعضها خلف بعض بسرعة رهيبة، اللئيمة، تحفظها بمهارةٍ عن ظهر قلب!! وهذا يعني أنها تتبصّر المستقبل لا محتاجة، وأن يدها ليست متشققة برداً بسبب الحاجة، بل لأن ظروف عملها –التّبصير- ليس موافقاً لقوانين العمل الذي حددته وزارة العمل والعمّال!! فررتُ منها لأقع بين أنياب أمها التي لحقت بي، فكنتُ كمَن هرب من قبّاض الأرواح ليقع بين يديّ عزرائيل، أو كالمتضايق من رذاذ المطر فلا يجد مكاناً يجلس فيه سوى تحت دلفِ المِزراب..!! المشكلة أن الأم التي لا أذكر من شكلها الآن إلا الوشم الذي يخضّر جبينها بشكل غير قابل للنسيان، لم تكشف لي عن مستقبل أيامي، بل قذفت بوجهي ذات الكلمات التي أحْفَظَتها لابنتها، وفوق ذلك كشفت لي عن امتداد سذاجتي حين أخذتْ راتبي الذي لم أمسُّ منه إلا القليل، فأطلقتُ العنان لساقي مبتعدةً عنها ..مرتجفة.. خائفة منها، لا بل من الجِنّ رفيقها، الذي تسلل لكفي الأيمن وأرسل الخيط فيه بعد أن ضممته عليه معقوداً عدة عقد..!!
لم أكره المستشفيات لكل ذلك، بل كرهتها بعد ذلك كله..!!

***

حتى سني المشقوق طرفه والذي أحرص على إخفائه ما استطعتُ إلى ذلك طريقاً، ظهر حين ابتسمت مُغالِبة اللهاث جراء صعودي للطابق الرابع. صافحته بحميمية ظاهرة وجلستُ بعدها على السرير الشاغر الذي يقع على يسار سريره، كان مبتسماً نشيطاً، بل عظيماً يكابرُ ما به، أدركت مدى ذلك حين أرسل لي قبل زيارتي له بيوم واحد رسالة قصيرة إلى هاتفي النقال يقول لي فيها:"حين تشعرين بالألم من مشكلة عظيمة، لا ترفعي يديك إلى الله وتقولي له، يا إلهي عندي مشكلة كبيرة، بل قولي.. هاه مشكلة، عندي إله عظيم..!!"

وما أن هدأت أنفاسي جراء صعودي الدرج الذي خلته لن ينتهي، كنت قد شربت علبة العصير التي قدّمها إليّ، دون تردد، وبعد الاطمئنان عن وضعه الصحي، شرعنا في الحديث عن رواية "العِطر"، وقاتِلها الشذي "غرونوي"، واتفقنا أننا سوف نتحدث عنها مطولاً بعد خروجه من المستشفى، وبعد ذلك تصفحتُ الكتابَ الذي كان يقرأه:
- أخي عدنان، هذا بالإنجليزية.. وأنا إمكانياتي الإنجليزية "رغيف وبيضة... إذا ما كان الرغيف لحاله"
- هاهاها
تمنّيت لو أن لي مقدرته على الأقل في قراءة الروائع بلغتها الأصلية، لا قراءة ترجمة "عبيطة" عن ترجمة "أعبط"..

بحركة لا إرادية بحثتُ عن مصدر السعال الذي تجلجل فجأة عن الجهة المقابلة لسريره ومكان جلوسي، لكني تجمدت من مشهد آخر، تَتَبرْكَن فيه نفسي إن رأيته على شاشة التلفاز..!!
- ويلي...لن أتحدث بهذا مع عدنان..!!

أسميته "محمد"، طويل القامة أو على الأقل ذلك ما كان يبدو عليه، أسمر الوجه، ومدخن من الطراز الأول، ملفوفاً بقماطة بيضاء تشبه القماطة التي قمَّطته بها أمه قبل أربعين سنة يوم مولده، سوى أن رأسه الآن قُمِّط أيضاً..!

هدأتُ لحظات، كهدوء موته، والتقت نظراتي بنظرات عدنان وزوجته التي كانت قد وصلت في موعدها اليومي منذ دخوله المستشفى، لم أنبس ببنت شفه حول "محمد"، وهما كذلك، إلا إن التفاصيل بدأت تتسرب إلي من عيني عدنان دون صوته، أخبرتني أنه يعمل محاسباً لدى شركة بسيطة، ويصارع قدره المحتوم منذ أشهر بالمستشفى، وأن له روحاً مرحة، من سيهرّب إليّ بعض السجائر التي مُنعنا عنها بالجُملة الآن..؟!

مساكين نحن أم حمقى؟ حتى إن أردنا البكاء نحتاج إلى مسوّغ..!
وهل هناك مسوغ آمِن لا يثير الشكوك أكثر من الضحك؟! بدأت التحرش بالضحك.. الضحك قهقهةً حتى الوقوع في البكاء..!! الأطفال، نبع الضحك الصافي المُقَهْقِه.. لذلك تحرشت بما فعله طفل أختي المشاغب لأضحك ونضحك جميعاً.. وضحكنا وقهقهتُ حتى بكيتُ ..!!
اضحك أكثر تبكي بخوف أقل من الأعين الفضولية!! الأطباء الحمقى.. كيف يتركونه هكذا بين المرضى ملفوفاً بقماطته، نذير شؤم يومهم التعس؟! كيف يتحول المريض من إنسان إلى نذير شؤم بلحظات..!!

أجابني عدنان بحركة من رأسه، أنه لا يمتلك إجابة على تساؤلي، وقهقه عالياً ليجد هو الآخر مسوغاً لبكاء مملح بالضحك...

يا إلهي .. عليّ أن أغادر سريعاً قبل أن تأتي "سِوار".. زوجته المسكينة ممسكة بيد أمه العجوز، وقبل بدء بكاء النواح، بمسوغ الموت.. ستبكي على صدره، وربما أمه تشق جيب ثوبها.. وبعد ذلك تحمل بيدها حذاء الرياضة خاصته الموجود تحت السرير، والذي وشى لي بتواضع حالته المادية.. تطمئن الحذاء أنه لن يهينه استخداماً بعد ذلك...

حملتُ حقيبتي سلمت على عدنان وزوجته البشوشة، شرعت بالمغادرة، هرباً من لقاء "سِوار" وأمه.. لولا استوقفني زعيق الهاتف الموصول جانب سريره.. يا إلهي .. "سوار" تريد أن تخبره أنها اضطرت للتأخر.. تجمدتُ مكاني لحظة ، عليّ أن أفعل شيئاً ..كنت سوف أصيح بصوت بُحّ بكاءً وضحكاً
- "سوار"، أرجوك... غادر إلى الله.. اتركيه بسلام.. اتركوه .. أتركوه ..
لولا أنه أشاح القماط عن رأسه، وبيدٍ دافئة أمسك سماعة الهاتف
- ألو، سوارِ لماذا تأخرتِ أنتظرك منذ ساعة
http://www23.brinkster.com/awraq1/story8.asp

أتمنى أن تزوروا الموقع لتتزودوا بالفائدة ..و شكرا

لؤلؤة البحر
02-05-2004, 12:40 AM
يومياً اقراء فيها وطلعت مو واضحه عندي ..

مادري الخلال مني او من وه..

مشكوره وماتقصري والله ..

فــــروته..

شجن
02-06-2004, 11:32 AM
مشكورة شاهزنان ماقصرتي

ونحن في انتظار المزيد

شاهزنان
02-06-2004, 04:04 PM
عزيزتي فرات ...

ما عاذ الله أن يكون هناك خلل منك ,, و لا أظنه خلل في القصة ..

فالكاتبة أكثر خبرة من أن تقع هنا في خلل ...

ربما هي مشكلة فهم لا أكثر و لا أقل ..إن أسلوب القصة هو اسلوب

روائي , ربما لم تعتادي عليه ,, اتمنى عليك عزيزتي قراءة المزيد من

الروايات لتتحسسي مقدار جمالية هذا الفن ... دمت رائعة ..

عزيزتي : شجن..

دائما هناك مزيد فقط أتمنى ان يعجبكم ...