فرح
02-02-2009, 08:23 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صباحكم/ مساءكم
بالورد والياسمين
"مذاق الصبر"
فقدت الإحساس في جسمي كله عدا ما فوق الكتفين. واقتصرت قدرتي على الحركة في عيني وفمي وحسب، ولم تكن لي قوة ـ حتى ـ على حك أنفي!
كان دعاء أمي رقيقا ينضح منه دفء الحميمة التي تجسد الامومة بكل أبعادها ومعانيها وقدسيتها. وكان وداع زوجتي رقراقا حملته ابتسامة هدهدت دواخلي وشدت روحي للبقاء..
وانطلقت بسيارتي في عتمة ليلة لم يطلع عليها ضوء القمر. تركت العفية خلفي إلى موقع عملي في حقول النفط بمنطقة مرمول على تخوم صحراء الربع الخالي.
وفي مكان ما على الطريق، في وقت مبكر من الصباح حين تبدأ خيوط النور الانتشار رويدا إيذانا بانبلاج فجر يوم جديد، اتخذت حياتي منعطفا آخر عندما اعترض جملان طريقي على بعد 20 مترا تقريبا من السيارة.
كبحت الفرامل وتضرعت لله أن تبطئ السيارة سرعتها وتتوقف قبل الاصطدام بكتلتي اللحم الوجلتين وسط الطريق، لكن السيارة واصلت الانزلاق نحوهما وصدمت أحدهما بقوة رفعته عاليا ليرتطم بسقفها ويهوي بثقله على رأسي.
في ساحة المستشفي، سارع الممرضون والممرضات إلى اسعافي وتجمع المرضى والمراجعون؛ وجاء المتطفلون وخيم عليّ ظل حائط مستدير قبته مفتوحة نحو السماء. كنت اتخبط في حالة بين الوعي واللاوعي، وبدأت أفقد القدرة على التركيز والرؤية وأشعر بخدر في جسمي كله وكأني مهيأ لعملية جراحية.
بدأت الوجوه والأشكال والاصوات تتداخل: افتح عينيي وأرى الناس أمامي كخيالات الظل تتحرك بشكل هستيري في اتجاهات وأبعاد لا وجود لها وتصدر أصواتا كخوار الثيران لا أفهم معاني كلماتها!
في اليوم التالي، فتحت عيني على أمي وزوجتي بجانب السرير. طغى الحزن والأسى على وجه والدتي وهي تذرف الدمع بلا انقطاع، بينما كانت زوجتي تنظر إليّ بابتسامة تخفي وراءها اضطرابا بالغا وحزنا عظيما وهي تشاهد نصف جسمي مجبرا بالجص وأنابيب السوائل تدخل وتخرج من النصف الآخر.. ابتسامة لا تشبه تلك التي ودعتني بها عندما غادرت المنزل فجر اليوم السابق!
حاولت ان ابدو قويا.. متماسكا، لكن نظراتها الحائرة والمضطربة قهرت محاولتي، اضعفت قوتي، ومزقت تماسكي، فسالت دمعتي.. دمعتها، وبدا لي ان خيطا رفيعا امتد بين دمعتينا: معبر لهواجس الخوف والقلق!
وكان جل ما تمنيت في تلك اللحظة أن أغمض عينيي وأنعتق معها بعيدا عن ذلك الواقع الأليم إلى عالمنا الخاص: عالم آخر يزخر بالبهجة والفرح.
قرر الأطباء تثبيت مكان الكسر بوضع مشبك معدني في جانبي الجمجمة ربط بخيط يمر ببكرة ثبتت في رأس السرير يتدلى من طرفه الآخر ثقل يزن عدة كيلوجرامات.
من تشخيص الأطباء الاولي لحالتي وفرص الشفاء، عرفت انني تعرضت لإصابة في النخاع الشوكي عند موضع الفقرة السادسة في أعلى جزء من العنق في العمود الفقري: أي بمعنى آخر أصبت بكسر في الرقبة.
شرح لي الطبيب طبيعة اصابتي، فبين ان الاصابة في النخاع الشوكي اخلت بعمل الجهاز العصبي واصبحت معظم اجزاء جسمي معزولة عن مركز النشاط العقلي في الرأس، وبالتالي لا تستجيب لارادة الدماغ.
وتصبح اعصاب النخاع غير قادرة على نقل الرسائل من المخ الى العضلات وبالعكس من الجسم الى المخ. ويفقد المصاب القدرة على الاحساس او الحركة في الاعضاء التي تقع اسفل موضع الاصابة من الظهر.
شهر كامل مر دون أن يطرأ أي تغيير على حالتي. بدأت فداحة المأساة تكبر بداخلي أكثر فأكثر وتصاعدت وتيرة اليأس والاحباط، ووقعت فريسة التفكير المستمر فيما ينبئ به المستقبل الحالك: شخص غير قادر على المشي أو الكتابة أو الاستحمام، عاجز حتى عن إنجاز أبسط الاحتياجات اليومية للإنسان.. تفكير اخذ يدفعني إلى حافة الجنون او يكاد!
وكان اشد ما يعذبني هو النظر في وجه زوجتي ورؤية تلك الابتسامة البريئة تذبل يوما بعد يوم. رغم ان وجودها الى جانبي كان يخفف عني مرارة الألم وكانت تثير في نفسي بعض السعادة والفرح وتشيع في جو الحجرة شيئا من البهجة والسرور. وكنت في غفلة منها، انظر اليها.. اتمعن في ملامح وجهها، فتُتعبني تلك اللحظات وتستدرجني الى استحضار صور لم تبرح ذاكرتي..
كنت ولا أزال أعتبر نفسي من الأشخاص الذين منحهم الله نفسا طويلا وبالا واسعا في التعامل مع الرتابة والروتين سواء كان مصدرهما الناس أم الأشياء، بيد أن تلك الميزة لم تجد نفعا في هذه الحالة ولم تخفف من قسوة الوجع الذي كنت أشعر به وأعانيه وأنا مشدود.
وأعني بمشدود انني لا أستطيع تحريك عضلة واحدة في جسمي سوى تلك التي تتحكم في وظائف الوجه، عاجز لا أقوى حتى على إطعام نفسي او هش ذبابة تتمخطر ذهابا وايابا فوق انفي!
صبري نفد وانتظاري طال. مر شهران وحالتي ظلت دون تغيير.. شهران كنت خلالهما ممددا على ظهري، إما محملقا في سقف الغرفة أو مغمضا عيني محاولا الهرب من واقع لا انفلات منه.
كانت تستبد بي الكآبة ويضنيني الألم، فأصرخ: يا إلهي! إلى متى هذا الألم والمعاناة؟ وأكاد أنفجر بالصراخ ولكني أتراجع متسائلا "ما فائدة أن أبكي وأصرخ؟" فالغضب لن يجديني نفعا والصراخ لن يخفف وجعي وإنما سيزيد من إحساسي باليأس وسيضاعف معاناة من حولي.
وأؤكد لنفسي بشكل او آخر ان قوة الانسان ليست في قدرته البدنية، وانما في قدرته النفسية التي تتجلى في مواجهة الشدائد والتصدي للمصاعب مهما تكالبت عليه!
أيام لا تكف تشد روحي
بعد شهرين من وقوع الحادث قرر الأطباء أن السفر لا يشكل خطرا عليّ، شرط أن اسافر بالجبيرة وعلى نقالة. وكانت الشركة قد رتبت لعلاجي في بريطانيا بمستشفي متخصص في إصابات النخاع الشوكي. ونقلت الى بريطانيا للعلاج.
استقبلت نهار اليوم التالي من وصولي المستشفى في بريطانيا على رطانة إرلندية وصوت فتح نافذة كبيرة تطل على حديقة ريف إنجليزي.
وشعرت بنسمة باردة شممت فيها رائحة هواء رطب وأعاد المنظر الخلاب لغابة الاشجار وأوراقها الصفراء ذاكرتي إلى أيام مضت لا تكف تشد روحي إليها إذا واتت الظروف.
فقد كنت أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية أقضي أوقاتا ممتعة في حديقة طبيعية بجانب سكني، خاصة خلال الخريف. ولكن سرعان ما أفقت من حلم اليقظة لأنفلت من عالم الذكريات الجميلة وأعود لحاضري الأليم: الشلل والعجز عن المشي.
وهكذا اصبحت في عالم تحكمه قوانين الاعاقة وانا لا ازال افكر بعقلية شخص سليم الجسد القادر على الحركة والمشي. بعد مضي حوالي ثلاثة أشهر علي وجودي في المستشفي، قطعت شوطا متقدما في العلاج الطبيعي الذي يشمل التدريب على بعض الأنشطة اليومية مثل التنقل من الكرسي إلى السرير أو إلى مقعد السيارة وبالعكس فضلا عن إعادة التأهيل كاستخدام فرشاة الأسنان والأكل باستخدام أدوات مناسبة، بالإضافة إلى التأهيل المهني كتعلم الكتابة (من جديد) والطباعة وتشغيل بعض الآلات.
كان البدء بتعلم اشياء جديدة، أي التأقلم والتعايش مع متطلبات الاعاقة، يثير في نفسي الاحباط والتشويش في آن واحد، لكني بدأت مع مرور الوقت والتمرس تطوير وسائل تعينني على تجاوز تلك المعوقات.
انتابني هاجس قبل عودتي الى عمان أن زوجتي سوف تجد صعوبة بالغة في التعامل معي بدنيا ونفسيا، وأنها لن تتحمل مشقة طلباتي الدائمة للمساعدة. وأمضيت تلك الفترة اتخبط في دوامة مستمرة من القلق والتفكير ووضع التقديرات والاستنتاجات وحتى ردود الفعل التي علي أن استعد لمواجهة المتوقع منها وغير المتوقع.
لم أحسن الظن
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد عندما امتدت يد توقظني، يوم عودتي إلى الوطن. شعرت بالرهبة وكأني مقدم على اختبار غير مستعد له ولست واثقا من نتيجته!
كنت لا أزال مستغرقا في التفكير وخيالي يجسد موقف لقائي الأول بأهلي وزوجتي، عندما طلبت المضيفة عبر مكبرات الصوت من المسافرين العودة إلى مقاعدهم استعدادا لهبوط الطائرة في مطار السيب.
امضينا ـ زوجتي وأنا ـ اسبوعين في مسقط ورغم قصر المدة صرت الآن في وضع افضل بكثير عما كنت عليه عند وصولي. وتعلمت فاطمة خلال هذه الفترة من الممرضة التي رافقتني الى عمان أساليب العناية بجرأة شديدة وسرعة واتقان لا يوصفان. وبذلت قصارى جهدها لمعرفة كل ما هو ضروري عن وضعي الجسدي.
وكان انتابني هاجس قبل سفري من إنجلترا أن فاطمة سوف تجد صعوبة بالغة في التعامل معي بدنيا ونفسيا، وأنها لن تتحمل مشقة طلباتي الدائمة للمساعدة. وأمضيت تلك الفترة اتخبط في دوامة مستمرة من القلق والتفكير.
بيد أن هواجسي كانت في غير موضعها، ولم احسن الظن! إذ أثبتت فاطمة بحبها قدرة لا متناهية على فهم وضعي الجديد وأزالت ببساطة تعاملها جبال الأوهام التي ترسبت في نفسي..
التصالح مع الاعاقة
ان اصبح غير قادر على الحركة وممارسة حياتي الطبيعية نتيجة لاصابة في العمود الفقري، فذلك أسوء ما حدث لي في حياتي! فلقد اخلت الاعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية، الاجتماعية، الزوجية، والوظيفية.
وسواء قبلت وضعي الجديد كمعوق او رفضته.. نسيته او تجاهلته، كان لا سبيل امامي سوى ان اتصالح مع الاعاقة واقبل شروطها واتعايش مع تبعاتها مهما كانت قاسية! وكان عليّ اعادة بناء حياة جديدة على انقاض اخرى تحطمت، وبناء احلام اخرى في اطار الحدود التي تفرضها اعاقتي ومستقبل حياتي الزوجية.
ولقد تعلمت خلال فترة التأهيل ان اكون تلميذا وتعلمت بعد عودتي ان اكون "معلما" اساعد اهلي واصدقائي والناس المحيطين بي على فهم اعاقتي ومن ثم اعادة صياغة مواقفهم من الاعاقة والمعوقين!
ومن نافلة القول ان اقرب الناس الى المصاب هم اكثرهم تأثرا باعاقته. فقد كنت اعلم ان هذا التغيير المفاجئ في وضعي سيثير ردود افعال مفهومة او لا بين اهلي واصدقائي، فهم جزء من المجتمع ولربما لديهم نفس الاعتقادات والمواقف المشوشة عن المعوقين.
وأؤكد لهم، بالتصرف حينا او الكلام حينا آخر، انه لم يطرأ عليّ تغيير لمجرد انني فقدت القدرة على المشي واستخدم الكرسي المتحرك للتنقل من مكان لآخر بدلا من قدميّ.
الانطباعات المقولبة
بعد الاستقرار في مسقط، وعندما بدأت اخرج إلى الأماكن العامة (مركز تجاري، مطعم، حديقة، أو سواها من الأماكن العامة التي يرتادها الجمهور) تعرضت كثيرا لمواقف يمكن تسميتها "النظرات المستغربة".
كان وقعها في البداية مزعجا، مربكا، وبغيضا! وأمام ذلك كنت لا أجد مناصا، وانا اخفي ضيقي، اكبت خنقي، واستر كآبتي، من الهرب وترك المكان.
وثمة اشخاص لا يتجاوز مجال رؤيتهم اطراف انوفهم ويصعب عليهم النظر الى المعوقين ابعد من الاجهزة التعويضية: كرسي متحرك وأطراف صناعية وسواها!
ويطلق هؤلاء احكاما تعرف بالانطباعات الـ"مقولبة" (رأيا مبسطا لحد الافراط المشوه) وينسحب هذا النوع من التفكير على جوانب اخرى من شخصيته غير تلك المتصلة بطبيعة الاعاقة: كأن يفترض ان المصاب بكسر في الظهر وبالتالي شلل في الاطراف السفلية هو ايضا يعاني من قصور في قواه العقلية!
ان "التسامح" ـ اذا صح التعبير ـ مع تلك المواقف وفهم الاسباب التي تدفع بعض الناس الى التصرف على ذلك النحو يستدعي النظر الى قضية الاعاقة في سياقها الاجتماعي والتاريخي. ففي مجتمعات كثيرة، وحتى وقت قريب، فرضت عوامل اجتماعية كالجهل والعصبية والخرافة احيانا عزلة قهرية على الشخص المعوق، فكان يواجه التهميش والاهمال ويصبح وجوده خزيا على اسرته، ويتعرض لكثير من اشكال التمييز بين اخوته وافراد اسرته ناهيك عن المجتمع ككل.
ان الاشخاص البسطاء غير ملامين في هذا التفكير النمطي "المقولب" في ظل غياب سلوك اجتماعي توعوي يشجع افراد المجتمع على التقرب والاتصال بالمعوقين وتهيئة مناخ اكبر للاختلاط بهم سواء ضمن ترتيبات خاصة او في مناشط عامة.
ولعل بعض المعوقين يتحملون جانبا من انتشار هذا النوع من التفكير حين يستسهلون الاعتماد على الآخرين ويركنون الى الشعور أنهم ضعفاء وغير قادرين على ادارة حياتهم.
وأؤكد هنا، في ضوء تجربتي، ان نظرة المعوق الى نفسه هي من اهم العوامل التي تغير التفكير والسلوك السلبي تجاهه. فإن قدَّم اعاقته للناس قبل ان يقدم نفسه ومهاراته، فان الآخرين سيعاملونه على ذلك الاساس. فانا اقدم نفسي من خلال من انا وليس ما هي اعاقتي، وانظر الى نفسي بايجابية قبل ان اطلب ذلك من الآخرين.
اقول "لا" عندما اظن انها الرد الصحيح، واقول "نعم" بارادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها ظروف الاعاقة او الاحساس بمركب النقص.
من مهندس الى مترجم
لم يكن من السهل بعد عودتي للشركة العمل في وظيفة لم تخطر لي على بال. فكيف يتحول مهندسي صناعي فجأة إلي مترجم؟ وكيف تتحول أدوات العمل وبيئته من أجهزة الحفر ومحطات تجميع انتاج النفط إلي طاولة وآلة كاتبة وقلم وممحاة وقاموس؟ هذا في جانب، والقدرة على استخدام تلك الادوات في جانب آخر.
ولأنّ ما تقوم به اليد من نشاطات يعتمد كليا على الابهام واصبع السبابة، فقد كانت القدرات البسيطة مثل: مسك القلم او الملعقة امر لا اقدر عليه؛ وغدى تصفح كتاب او مجلة مهمة مستحيلة تحتاج لمساعدة الآخرين، فالاصابة سلبت منى ابسط القدرات الجسدية . وامام هذه التحديات ومثلها كان عليّ ان اجد وسائل او "اخترع" أدوات مناسبة استطيع بواسطتها انجاز عملي وتحقيق قدر ولو ضئيل من الاستقلالية.
ويبدو ان خلفيتي الهندسية وجدت لنفسها استخداما في سعي الدائم من اجل "صنع" ما يمكن ان يسهل متطلباتي اليومية.. وهي ضرورة فرضتها في البداية الحاجة ثم اصبحت فيما بعد اشبه بالهواية.
دخول اجهزة الحاسوب الشخصي فيما بعد خلق تحول نوعي كبير في طريقة ادائي للعمل اولا واثراء حياتي اليومية ثانيا: فمن خلال استخدام ادوات الحاسوب استطعت جمع وتخزين البيانات سواء تلك المتعلقة بطبيعة عملي او غيرها في اقراص مرنة استطيع الوصول اليها بضغط زر والتي اغنتني عن مهمة البحث اليدوي في المراجع والملفات والاوراق ودفاتر الملاحظات.
وقد وفر الحاسوب لي الحرية للعمل بكفاءة ومرونة، والاهم انه منحني الفرصة للعمل على قدم المساواة مع زملائي في الشركة.
أمسكت بعجلة القيادة مرة ثانية
بعد ثلاث سنوات من وقوع الحادث ذهبت الى امريكا لتلقي مزيدا من التأهيل وهناك اقترح عليّ الطبيب تعلم قيادة السيارة. وهذا ما لم احلم به قط!
في الجلسة الاولى لتعلم السياقة طارت الرهبة.. تبخر الخوف، وذهلت من سهولة السياقة باستخدام جهاز يدوي بسيط للضغط على دواسة الوقود وكبح الفرامل.
لا اظن ان ثمة من يستطيع تخيل ذلك الشعور الذي طغى عليّ. فها انا ذا امتلك القدرة مرة ثانية بعد ان فقدتها على التحرك بأي اتجاه اريد.. الى الامام او الخلف.. الى اليمين او اليسار. اتحرك متى شئت واقف متى شئت!
لم "تسعني الدنيا" في تلك اللحظات ولم اطق للوقت صبرا! وما كنت استطع ان انتظر حتى ينتهي الدرس الاول، فطلبت من المدرب ان يسمح لي بالعودة الى مركز التدريب لكي ترى زوجتي ما حدث.
لم اكتف بذلك وطلبت من المدرب ان نصطحبها معنا في السيارة. تردد اولا لان نظام المركز لا يسمح بذلك.. وهم محقون! ولكنه استجاب تحت ضغط ابتسامة شاهدها على وجه فاطمة اجبرته على الموافقة ـ ابتسامة أظن انه لم ير مثلها على وجه احد من قبل!
مضت سنوات كثيرة على ذلك اليوم لكن ذلك الاحساس الطاغي لا يزال راسخا في ذاكرتي بتفاصيل المشهد المثيرة، واكثرها وضوحا الفرحة التي ادخلتٌها على نفس زوجتي بعد ان اعتقدت انه لم يعد لدي ما يدخل البهجة الى نفسها.
هواجس
لم تكن تبعات الاعاقة هاجسي لاني اخاف الموت ـ وذلك بامره سبحانه وتعالى ـ لا.. بل لاني كنت اخشى الفقر. فقد مضت عليّ فترة قبل عودتي الى عمان من بريطانيا وانا افكر في اليوم الذي سياتي فيه زائر ـ قريب او صديق ـ ويخرج من جيبه بضعة ريالات يدسها تحت وسادة فراشي. يا الهي كم كنت اخشى هذا اليوم!
ولعل هذا الهاجس كان له دور رئيس على اصراري وعزمي على مواصلة العمل وتأمين حياتي من العوز والعيش بكرامة توفر لي الحصانة وتمنحني القوة لاقول "لا" او "نعم" متى شئت ولمن شئت بقناعة لا يفرضها مركب نقص او تحكمها حاجة!
م/ن
وبالصبر والعزيمه وقوة الاراده يحصل كل انسان سواء من ذوي الاحتياجات ام من غيرهاالى مايصبوووااليه
>>الصبر مفتاح الفرج<<،،وماضاقت الاوفرجت ،،
تمنياتي لكم بالحياه الهادئه التي لايسودها مايعكر صفوا حياتكم احبتي
صباحكم/ مساءكم
بالورد والياسمين
"مذاق الصبر"
فقدت الإحساس في جسمي كله عدا ما فوق الكتفين. واقتصرت قدرتي على الحركة في عيني وفمي وحسب، ولم تكن لي قوة ـ حتى ـ على حك أنفي!
كان دعاء أمي رقيقا ينضح منه دفء الحميمة التي تجسد الامومة بكل أبعادها ومعانيها وقدسيتها. وكان وداع زوجتي رقراقا حملته ابتسامة هدهدت دواخلي وشدت روحي للبقاء..
وانطلقت بسيارتي في عتمة ليلة لم يطلع عليها ضوء القمر. تركت العفية خلفي إلى موقع عملي في حقول النفط بمنطقة مرمول على تخوم صحراء الربع الخالي.
وفي مكان ما على الطريق، في وقت مبكر من الصباح حين تبدأ خيوط النور الانتشار رويدا إيذانا بانبلاج فجر يوم جديد، اتخذت حياتي منعطفا آخر عندما اعترض جملان طريقي على بعد 20 مترا تقريبا من السيارة.
كبحت الفرامل وتضرعت لله أن تبطئ السيارة سرعتها وتتوقف قبل الاصطدام بكتلتي اللحم الوجلتين وسط الطريق، لكن السيارة واصلت الانزلاق نحوهما وصدمت أحدهما بقوة رفعته عاليا ليرتطم بسقفها ويهوي بثقله على رأسي.
في ساحة المستشفي، سارع الممرضون والممرضات إلى اسعافي وتجمع المرضى والمراجعون؛ وجاء المتطفلون وخيم عليّ ظل حائط مستدير قبته مفتوحة نحو السماء. كنت اتخبط في حالة بين الوعي واللاوعي، وبدأت أفقد القدرة على التركيز والرؤية وأشعر بخدر في جسمي كله وكأني مهيأ لعملية جراحية.
بدأت الوجوه والأشكال والاصوات تتداخل: افتح عينيي وأرى الناس أمامي كخيالات الظل تتحرك بشكل هستيري في اتجاهات وأبعاد لا وجود لها وتصدر أصواتا كخوار الثيران لا أفهم معاني كلماتها!
في اليوم التالي، فتحت عيني على أمي وزوجتي بجانب السرير. طغى الحزن والأسى على وجه والدتي وهي تذرف الدمع بلا انقطاع، بينما كانت زوجتي تنظر إليّ بابتسامة تخفي وراءها اضطرابا بالغا وحزنا عظيما وهي تشاهد نصف جسمي مجبرا بالجص وأنابيب السوائل تدخل وتخرج من النصف الآخر.. ابتسامة لا تشبه تلك التي ودعتني بها عندما غادرت المنزل فجر اليوم السابق!
حاولت ان ابدو قويا.. متماسكا، لكن نظراتها الحائرة والمضطربة قهرت محاولتي، اضعفت قوتي، ومزقت تماسكي، فسالت دمعتي.. دمعتها، وبدا لي ان خيطا رفيعا امتد بين دمعتينا: معبر لهواجس الخوف والقلق!
وكان جل ما تمنيت في تلك اللحظة أن أغمض عينيي وأنعتق معها بعيدا عن ذلك الواقع الأليم إلى عالمنا الخاص: عالم آخر يزخر بالبهجة والفرح.
قرر الأطباء تثبيت مكان الكسر بوضع مشبك معدني في جانبي الجمجمة ربط بخيط يمر ببكرة ثبتت في رأس السرير يتدلى من طرفه الآخر ثقل يزن عدة كيلوجرامات.
من تشخيص الأطباء الاولي لحالتي وفرص الشفاء، عرفت انني تعرضت لإصابة في النخاع الشوكي عند موضع الفقرة السادسة في أعلى جزء من العنق في العمود الفقري: أي بمعنى آخر أصبت بكسر في الرقبة.
شرح لي الطبيب طبيعة اصابتي، فبين ان الاصابة في النخاع الشوكي اخلت بعمل الجهاز العصبي واصبحت معظم اجزاء جسمي معزولة عن مركز النشاط العقلي في الرأس، وبالتالي لا تستجيب لارادة الدماغ.
وتصبح اعصاب النخاع غير قادرة على نقل الرسائل من المخ الى العضلات وبالعكس من الجسم الى المخ. ويفقد المصاب القدرة على الاحساس او الحركة في الاعضاء التي تقع اسفل موضع الاصابة من الظهر.
شهر كامل مر دون أن يطرأ أي تغيير على حالتي. بدأت فداحة المأساة تكبر بداخلي أكثر فأكثر وتصاعدت وتيرة اليأس والاحباط، ووقعت فريسة التفكير المستمر فيما ينبئ به المستقبل الحالك: شخص غير قادر على المشي أو الكتابة أو الاستحمام، عاجز حتى عن إنجاز أبسط الاحتياجات اليومية للإنسان.. تفكير اخذ يدفعني إلى حافة الجنون او يكاد!
وكان اشد ما يعذبني هو النظر في وجه زوجتي ورؤية تلك الابتسامة البريئة تذبل يوما بعد يوم. رغم ان وجودها الى جانبي كان يخفف عني مرارة الألم وكانت تثير في نفسي بعض السعادة والفرح وتشيع في جو الحجرة شيئا من البهجة والسرور. وكنت في غفلة منها، انظر اليها.. اتمعن في ملامح وجهها، فتُتعبني تلك اللحظات وتستدرجني الى استحضار صور لم تبرح ذاكرتي..
كنت ولا أزال أعتبر نفسي من الأشخاص الذين منحهم الله نفسا طويلا وبالا واسعا في التعامل مع الرتابة والروتين سواء كان مصدرهما الناس أم الأشياء، بيد أن تلك الميزة لم تجد نفعا في هذه الحالة ولم تخفف من قسوة الوجع الذي كنت أشعر به وأعانيه وأنا مشدود.
وأعني بمشدود انني لا أستطيع تحريك عضلة واحدة في جسمي سوى تلك التي تتحكم في وظائف الوجه، عاجز لا أقوى حتى على إطعام نفسي او هش ذبابة تتمخطر ذهابا وايابا فوق انفي!
صبري نفد وانتظاري طال. مر شهران وحالتي ظلت دون تغيير.. شهران كنت خلالهما ممددا على ظهري، إما محملقا في سقف الغرفة أو مغمضا عيني محاولا الهرب من واقع لا انفلات منه.
كانت تستبد بي الكآبة ويضنيني الألم، فأصرخ: يا إلهي! إلى متى هذا الألم والمعاناة؟ وأكاد أنفجر بالصراخ ولكني أتراجع متسائلا "ما فائدة أن أبكي وأصرخ؟" فالغضب لن يجديني نفعا والصراخ لن يخفف وجعي وإنما سيزيد من إحساسي باليأس وسيضاعف معاناة من حولي.
وأؤكد لنفسي بشكل او آخر ان قوة الانسان ليست في قدرته البدنية، وانما في قدرته النفسية التي تتجلى في مواجهة الشدائد والتصدي للمصاعب مهما تكالبت عليه!
أيام لا تكف تشد روحي
بعد شهرين من وقوع الحادث قرر الأطباء أن السفر لا يشكل خطرا عليّ، شرط أن اسافر بالجبيرة وعلى نقالة. وكانت الشركة قد رتبت لعلاجي في بريطانيا بمستشفي متخصص في إصابات النخاع الشوكي. ونقلت الى بريطانيا للعلاج.
استقبلت نهار اليوم التالي من وصولي المستشفى في بريطانيا على رطانة إرلندية وصوت فتح نافذة كبيرة تطل على حديقة ريف إنجليزي.
وشعرت بنسمة باردة شممت فيها رائحة هواء رطب وأعاد المنظر الخلاب لغابة الاشجار وأوراقها الصفراء ذاكرتي إلى أيام مضت لا تكف تشد روحي إليها إذا واتت الظروف.
فقد كنت أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية أقضي أوقاتا ممتعة في حديقة طبيعية بجانب سكني، خاصة خلال الخريف. ولكن سرعان ما أفقت من حلم اليقظة لأنفلت من عالم الذكريات الجميلة وأعود لحاضري الأليم: الشلل والعجز عن المشي.
وهكذا اصبحت في عالم تحكمه قوانين الاعاقة وانا لا ازال افكر بعقلية شخص سليم الجسد القادر على الحركة والمشي. بعد مضي حوالي ثلاثة أشهر علي وجودي في المستشفي، قطعت شوطا متقدما في العلاج الطبيعي الذي يشمل التدريب على بعض الأنشطة اليومية مثل التنقل من الكرسي إلى السرير أو إلى مقعد السيارة وبالعكس فضلا عن إعادة التأهيل كاستخدام فرشاة الأسنان والأكل باستخدام أدوات مناسبة، بالإضافة إلى التأهيل المهني كتعلم الكتابة (من جديد) والطباعة وتشغيل بعض الآلات.
كان البدء بتعلم اشياء جديدة، أي التأقلم والتعايش مع متطلبات الاعاقة، يثير في نفسي الاحباط والتشويش في آن واحد، لكني بدأت مع مرور الوقت والتمرس تطوير وسائل تعينني على تجاوز تلك المعوقات.
انتابني هاجس قبل عودتي الى عمان أن زوجتي سوف تجد صعوبة بالغة في التعامل معي بدنيا ونفسيا، وأنها لن تتحمل مشقة طلباتي الدائمة للمساعدة. وأمضيت تلك الفترة اتخبط في دوامة مستمرة من القلق والتفكير ووضع التقديرات والاستنتاجات وحتى ردود الفعل التي علي أن استعد لمواجهة المتوقع منها وغير المتوقع.
لم أحسن الظن
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد عندما امتدت يد توقظني، يوم عودتي إلى الوطن. شعرت بالرهبة وكأني مقدم على اختبار غير مستعد له ولست واثقا من نتيجته!
كنت لا أزال مستغرقا في التفكير وخيالي يجسد موقف لقائي الأول بأهلي وزوجتي، عندما طلبت المضيفة عبر مكبرات الصوت من المسافرين العودة إلى مقاعدهم استعدادا لهبوط الطائرة في مطار السيب.
امضينا ـ زوجتي وأنا ـ اسبوعين في مسقط ورغم قصر المدة صرت الآن في وضع افضل بكثير عما كنت عليه عند وصولي. وتعلمت فاطمة خلال هذه الفترة من الممرضة التي رافقتني الى عمان أساليب العناية بجرأة شديدة وسرعة واتقان لا يوصفان. وبذلت قصارى جهدها لمعرفة كل ما هو ضروري عن وضعي الجسدي.
وكان انتابني هاجس قبل سفري من إنجلترا أن فاطمة سوف تجد صعوبة بالغة في التعامل معي بدنيا ونفسيا، وأنها لن تتحمل مشقة طلباتي الدائمة للمساعدة. وأمضيت تلك الفترة اتخبط في دوامة مستمرة من القلق والتفكير.
بيد أن هواجسي كانت في غير موضعها، ولم احسن الظن! إذ أثبتت فاطمة بحبها قدرة لا متناهية على فهم وضعي الجديد وأزالت ببساطة تعاملها جبال الأوهام التي ترسبت في نفسي..
التصالح مع الاعاقة
ان اصبح غير قادر على الحركة وممارسة حياتي الطبيعية نتيجة لاصابة في العمود الفقري، فذلك أسوء ما حدث لي في حياتي! فلقد اخلت الاعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية، الاجتماعية، الزوجية، والوظيفية.
وسواء قبلت وضعي الجديد كمعوق او رفضته.. نسيته او تجاهلته، كان لا سبيل امامي سوى ان اتصالح مع الاعاقة واقبل شروطها واتعايش مع تبعاتها مهما كانت قاسية! وكان عليّ اعادة بناء حياة جديدة على انقاض اخرى تحطمت، وبناء احلام اخرى في اطار الحدود التي تفرضها اعاقتي ومستقبل حياتي الزوجية.
ولقد تعلمت خلال فترة التأهيل ان اكون تلميذا وتعلمت بعد عودتي ان اكون "معلما" اساعد اهلي واصدقائي والناس المحيطين بي على فهم اعاقتي ومن ثم اعادة صياغة مواقفهم من الاعاقة والمعوقين!
ومن نافلة القول ان اقرب الناس الى المصاب هم اكثرهم تأثرا باعاقته. فقد كنت اعلم ان هذا التغيير المفاجئ في وضعي سيثير ردود افعال مفهومة او لا بين اهلي واصدقائي، فهم جزء من المجتمع ولربما لديهم نفس الاعتقادات والمواقف المشوشة عن المعوقين.
وأؤكد لهم، بالتصرف حينا او الكلام حينا آخر، انه لم يطرأ عليّ تغيير لمجرد انني فقدت القدرة على المشي واستخدم الكرسي المتحرك للتنقل من مكان لآخر بدلا من قدميّ.
الانطباعات المقولبة
بعد الاستقرار في مسقط، وعندما بدأت اخرج إلى الأماكن العامة (مركز تجاري، مطعم، حديقة، أو سواها من الأماكن العامة التي يرتادها الجمهور) تعرضت كثيرا لمواقف يمكن تسميتها "النظرات المستغربة".
كان وقعها في البداية مزعجا، مربكا، وبغيضا! وأمام ذلك كنت لا أجد مناصا، وانا اخفي ضيقي، اكبت خنقي، واستر كآبتي، من الهرب وترك المكان.
وثمة اشخاص لا يتجاوز مجال رؤيتهم اطراف انوفهم ويصعب عليهم النظر الى المعوقين ابعد من الاجهزة التعويضية: كرسي متحرك وأطراف صناعية وسواها!
ويطلق هؤلاء احكاما تعرف بالانطباعات الـ"مقولبة" (رأيا مبسطا لحد الافراط المشوه) وينسحب هذا النوع من التفكير على جوانب اخرى من شخصيته غير تلك المتصلة بطبيعة الاعاقة: كأن يفترض ان المصاب بكسر في الظهر وبالتالي شلل في الاطراف السفلية هو ايضا يعاني من قصور في قواه العقلية!
ان "التسامح" ـ اذا صح التعبير ـ مع تلك المواقف وفهم الاسباب التي تدفع بعض الناس الى التصرف على ذلك النحو يستدعي النظر الى قضية الاعاقة في سياقها الاجتماعي والتاريخي. ففي مجتمعات كثيرة، وحتى وقت قريب، فرضت عوامل اجتماعية كالجهل والعصبية والخرافة احيانا عزلة قهرية على الشخص المعوق، فكان يواجه التهميش والاهمال ويصبح وجوده خزيا على اسرته، ويتعرض لكثير من اشكال التمييز بين اخوته وافراد اسرته ناهيك عن المجتمع ككل.
ان الاشخاص البسطاء غير ملامين في هذا التفكير النمطي "المقولب" في ظل غياب سلوك اجتماعي توعوي يشجع افراد المجتمع على التقرب والاتصال بالمعوقين وتهيئة مناخ اكبر للاختلاط بهم سواء ضمن ترتيبات خاصة او في مناشط عامة.
ولعل بعض المعوقين يتحملون جانبا من انتشار هذا النوع من التفكير حين يستسهلون الاعتماد على الآخرين ويركنون الى الشعور أنهم ضعفاء وغير قادرين على ادارة حياتهم.
وأؤكد هنا، في ضوء تجربتي، ان نظرة المعوق الى نفسه هي من اهم العوامل التي تغير التفكير والسلوك السلبي تجاهه. فإن قدَّم اعاقته للناس قبل ان يقدم نفسه ومهاراته، فان الآخرين سيعاملونه على ذلك الاساس. فانا اقدم نفسي من خلال من انا وليس ما هي اعاقتي، وانظر الى نفسي بايجابية قبل ان اطلب ذلك من الآخرين.
اقول "لا" عندما اظن انها الرد الصحيح، واقول "نعم" بارادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها ظروف الاعاقة او الاحساس بمركب النقص.
من مهندس الى مترجم
لم يكن من السهل بعد عودتي للشركة العمل في وظيفة لم تخطر لي على بال. فكيف يتحول مهندسي صناعي فجأة إلي مترجم؟ وكيف تتحول أدوات العمل وبيئته من أجهزة الحفر ومحطات تجميع انتاج النفط إلي طاولة وآلة كاتبة وقلم وممحاة وقاموس؟ هذا في جانب، والقدرة على استخدام تلك الادوات في جانب آخر.
ولأنّ ما تقوم به اليد من نشاطات يعتمد كليا على الابهام واصبع السبابة، فقد كانت القدرات البسيطة مثل: مسك القلم او الملعقة امر لا اقدر عليه؛ وغدى تصفح كتاب او مجلة مهمة مستحيلة تحتاج لمساعدة الآخرين، فالاصابة سلبت منى ابسط القدرات الجسدية . وامام هذه التحديات ومثلها كان عليّ ان اجد وسائل او "اخترع" أدوات مناسبة استطيع بواسطتها انجاز عملي وتحقيق قدر ولو ضئيل من الاستقلالية.
ويبدو ان خلفيتي الهندسية وجدت لنفسها استخداما في سعي الدائم من اجل "صنع" ما يمكن ان يسهل متطلباتي اليومية.. وهي ضرورة فرضتها في البداية الحاجة ثم اصبحت فيما بعد اشبه بالهواية.
دخول اجهزة الحاسوب الشخصي فيما بعد خلق تحول نوعي كبير في طريقة ادائي للعمل اولا واثراء حياتي اليومية ثانيا: فمن خلال استخدام ادوات الحاسوب استطعت جمع وتخزين البيانات سواء تلك المتعلقة بطبيعة عملي او غيرها في اقراص مرنة استطيع الوصول اليها بضغط زر والتي اغنتني عن مهمة البحث اليدوي في المراجع والملفات والاوراق ودفاتر الملاحظات.
وقد وفر الحاسوب لي الحرية للعمل بكفاءة ومرونة، والاهم انه منحني الفرصة للعمل على قدم المساواة مع زملائي في الشركة.
أمسكت بعجلة القيادة مرة ثانية
بعد ثلاث سنوات من وقوع الحادث ذهبت الى امريكا لتلقي مزيدا من التأهيل وهناك اقترح عليّ الطبيب تعلم قيادة السيارة. وهذا ما لم احلم به قط!
في الجلسة الاولى لتعلم السياقة طارت الرهبة.. تبخر الخوف، وذهلت من سهولة السياقة باستخدام جهاز يدوي بسيط للضغط على دواسة الوقود وكبح الفرامل.
لا اظن ان ثمة من يستطيع تخيل ذلك الشعور الذي طغى عليّ. فها انا ذا امتلك القدرة مرة ثانية بعد ان فقدتها على التحرك بأي اتجاه اريد.. الى الامام او الخلف.. الى اليمين او اليسار. اتحرك متى شئت واقف متى شئت!
لم "تسعني الدنيا" في تلك اللحظات ولم اطق للوقت صبرا! وما كنت استطع ان انتظر حتى ينتهي الدرس الاول، فطلبت من المدرب ان يسمح لي بالعودة الى مركز التدريب لكي ترى زوجتي ما حدث.
لم اكتف بذلك وطلبت من المدرب ان نصطحبها معنا في السيارة. تردد اولا لان نظام المركز لا يسمح بذلك.. وهم محقون! ولكنه استجاب تحت ضغط ابتسامة شاهدها على وجه فاطمة اجبرته على الموافقة ـ ابتسامة أظن انه لم ير مثلها على وجه احد من قبل!
مضت سنوات كثيرة على ذلك اليوم لكن ذلك الاحساس الطاغي لا يزال راسخا في ذاكرتي بتفاصيل المشهد المثيرة، واكثرها وضوحا الفرحة التي ادخلتٌها على نفس زوجتي بعد ان اعتقدت انه لم يعد لدي ما يدخل البهجة الى نفسها.
هواجس
لم تكن تبعات الاعاقة هاجسي لاني اخاف الموت ـ وذلك بامره سبحانه وتعالى ـ لا.. بل لاني كنت اخشى الفقر. فقد مضت عليّ فترة قبل عودتي الى عمان من بريطانيا وانا افكر في اليوم الذي سياتي فيه زائر ـ قريب او صديق ـ ويخرج من جيبه بضعة ريالات يدسها تحت وسادة فراشي. يا الهي كم كنت اخشى هذا اليوم!
ولعل هذا الهاجس كان له دور رئيس على اصراري وعزمي على مواصلة العمل وتأمين حياتي من العوز والعيش بكرامة توفر لي الحصانة وتمنحني القوة لاقول "لا" او "نعم" متى شئت ولمن شئت بقناعة لا يفرضها مركب نقص او تحكمها حاجة!
م/ن
وبالصبر والعزيمه وقوة الاراده يحصل كل انسان سواء من ذوي الاحتياجات ام من غيرهاالى مايصبوووااليه
>>الصبر مفتاح الفرج<<،،وماضاقت الاوفرجت ،،
تمنياتي لكم بالحياه الهادئه التي لايسودها مايعكر صفوا حياتكم احبتي