أباالصلط
12-28-2007, 04:11 PM
http://www5.0zz0.com/2007/12/28/13/79688210.jpg
__________________________________________________ ________
في يوم الاثنين، الثلاثين من نيسان استقبل رئيس الوزراء اهود اولمرت اعضاء لجنة فينوغراد في ديوانه في القدس. بعد مغادرتهم بدقائق تحولت فترة ما بعد الظهر المقدسية الربيعية اللطيفة الى احدى ظهيرات تقلبات الأهواء.
كلما كان يتعمق في تصفح التقرير كلما تلاشت الابتسامة عن وجه اولمرت بسبب ما يقرأه هناك. مستشاروه المقربون الذين انقضوا على الكلمات اصيبوا بالشحوب والاصفرار دفعة واحدة. في غضون ذلك قام أحدهم بفتح التلفاز فدوى صوت القاضي فينوغراد المتناغم في المؤتمر الصحفي في الغرفة، وهو يذبح اولمرت في بث حي.
ديوان رئيس الوزراء ذكّر بالتايتانيك في تلك الساعات، موجة من الهستيريا والاكتئاب ومشاعر يوم الحساب وأجواء كئيبة – كل هذه العناصر امتزجت معا بسبب تقرير لجنة التحقيق التي عينها اولمرت بنفسه، والذي تضمن احدى الفقرات الأشد قسوة وصعوبة التي كتبت حول قائد في اسرائيل منذ اقامة الدولة.
قبل ذلك بيومين نشرت احدى قنوات التلفاز ان التقرير يتضمن انتقادات صغيرة لاولمرت على طراز "تصرف بتهور". أتباع رئيس الوزراء فرحوا لقراءة هذه الكلمات، فالتهور مسألة مقبولة وهي صغيرة عليهم. ولكن ما ان نشر التقرير الحقيقي حتى سقط السقف فوق رؤوسهم. هم أعدوا خطة عمل تفصيلية وتقاسموا بينهم محطات التلفاز والاذاعة والمهمات المختلفة لاعطاء الردود واطلاق التصريحات آملين باجتياز هذا اليوم بالحد الادنى من الاصابات. ولكن ها هو كل شيء ينهار دفعة واحدة.
بعض حلفاء اولمرت السياسيين شوهدوا في ذلك المساء وهم يفرون من الاستوديوهات في رعب وكأنهم شاهدوا غولا جبارا، وانتشروا في كل صوب. "لم نسمع بأمر مثل هذا"، تمتم أحد المقربين جدا لرئيس الوزراء، "عليه الان ان يغادر". الوحيد الذي حاول رد الحرب بالحرب كان روني بار أون، الذي تشبث بملاحظة هامشية في التقرير ("الخطأ يجب ان يُصوب")، حاول اقناع المشاهدين والمستمعين ان اولمرت هو الوحيد القادر على تقويم الاخطاء والاخلالات. في ذلك المساء اعتبره الناس غريب الاطوار.
اولمرت سمع خلال المداولات الداخلية في ديوانه في ذلك المساء امورا متشابهة من كل أتباعه، إذ قالوا له انه لا يستطيع البقاء في منصبه بعد تقرير كهذا. الوحيد الذي لم يتفق مع هذا التشخيص ولو للحظة واحدة كان المرحوم نفسه. اهود اولمرت كان مصمما على الاستمرار رغم حالة الاكتئاب وردود الافعال الفتاكة في وسائل الاعلام ووضعه الجسدي الضعيف. كل من حاول التلميح له بأن عليه ان يفكر بالاستقالة، أُنب فورا.
في تلك الليلة وبعد نشر التقرير كان هناك اجماع شبه تام تقريبا بين كل المحللين بأن مصير اولمرت قد حسم.
أعجوبة طبية
قبيل الساعة الحادية عشرة ليلا بدأ اولمرت اتصالاته الهاتفية بصناع الرأي العام المؤثرين عليه، من تحدث معه في تلك الليلة سمع من الطرف الاخر صوت شخص محطم مفتقد للثقة الذاتية مناشدا تقريبا للابقاء على حياته. الغطرسة والعجرفة اختفتا، كما ان التكبر رحل عن هذا العالم. ولكن من داخل الحفرة السوداء ما زالت هناك مؤشرات للحياة بعد.
وها هي ثمانية اشهر تمر منذئذ، واولمرت ما زال هنا. أعجوبة طبية حقيقية. واكثر من ذلك: خلال الفترة التي مرت منذ ان قضي على رئيس الوزراء على يد اللجنة التي شكلها لتقصي حقائق حرب لبنان الثانية، تحول الى نجم في البرامج الواقعية الشعبية تحت عنوان "البقاء" في المنصب نفسه. هذه البرامج لم تصور في جزر الكاريبي وانما حدثت على ارض الواقع في حقول الصيد الأبدية – السياسة الاسرائيلية.
اولمرت لم يكن محاطا بعارضات أزياء بملابس السباحة، وانما بتماسيح واسماك مفترسة تطلب روحه. المسؤولية الفادحة التي وجهت اليه عن الحرب كانت مصيبة واحدة فقط، ويضاف اليها يارون زليخة وميخا ليندنشتراوس والتحقيقات البوليسية التي لا تنتهي و3 في المائة مهينة في استطلاعات الرأي، فتحصلون بذلك على حرب ضارية ضد كل الاحتمالات.
بكلمات اخرى: تايتانيك اولمرت اصطدمت بجبل الجليد فغرق الجليد نفسه، أما هي فما زالت تمخر عباب البحر بنشاط متقدمة الى الأمام، حتى ان هناك نغمات موسيقية اولى لطيفة بدأت تسمع من على ظهر هذه السفينة. اولمرت تمكن من البقاء. الامر ليس محسوما بعد.
"مستر سلام"
ما زال أمام اولمرت شهر سيء وفصل الختام البطولي للمسلسل. ولكن ذلك ايضا سيكون مفاجأة مدوية. الان عشية صدور التقرير النهائي للجنة فينوغراد قام اولمرت بتركيب شبكة دفاعية ناجعة لنفسه وغير قابلة للاختراق تقريبا. كل ما فعله منذ نشر الفصل الاول من التقرير وكل ما قاله وكل ما فكر به وخططه كان نابعا من دافعية واحدة فقط: كيف يمكنه اجتياز لجنة فينوغراد، والبقاء حيا. كيف يمكنه اعادة بناء شرعيته وترسيخ صلاحياته واقناع الناس والاعلام والجهاز السياسي بضرورة وجوده.
اولمرت نجح في انجاز هذه المهمات. هو يواجه الان المعركة الاخيرة. في ظل مجريات الامور حاليا يبدو ان أعداءه هم الذين اصيبوا بالارهاق بالتحديد. بعضهم مثل زليخة لم يعودوا معنا، وآخرون يُعدون انفسهم للمعركة الاخيرة منذ عام ومع ذلك لم تأت بعد. جثة اولمرت السياسية ما زالت ترفس وتتحرك بدلا من ان تبرد. قبل مدة غير بعيدة صرح للناس بأن رئيس الوزراء في اسرائيل ليس بحاجة الى أجندة. هذا كان تصريحا اضافيا في سلسلة طويلة من الكبوات والاخطاء الاولمرتية النابعة من حقيقة انه لا يمكن اعطاء هذا الشخص نصيحة أو تخفيض مستوى رضاه عن نفسه ولو بقليل.
ولكن حينئذ ودفعة واحدة تقريبا ادرك مجريات الامور. بين ليلة وضحاها حول اولمرت نفسه الى "مستر سلام". شغف بأبو مازن ولاءم مساره مع يوسي بيلين وانقض على السلام وكأنه قد حصل على غنائم كبيرة. رويدا رويدا، اصبع تلو اصبع، خلص اولمرت نفسه من قبره السياسي ووجد لنفسه أجندة قديمة متجددة: غريزة البقاء. هذه الدافعية الاقوى والطبيعية المطلوبة جدا للجنس البشري: الرغبة في البقاء حيا والتشبث بقرون السلطان بكل قوة وضد كل الاحتمالات والاستطلاعات والتخمينات والرثاء.
ما فعله اولمرت في هذه الاشهر سيدخل في مرحلة ما في كتب التدريس حول البقاء السياسي. هو فشل في حرب الصيف التي شنها، أما الحرب التي فرضت عليه بعدئذ فقد كسبها. هذه كانت حربه.
المهمة الاولى كانت قمع التمرد الداخلي في كديما، وقد تم له ذلك بسهولة نسبية. تسيبي لفني تلعثمت وديختر فر وافيغدور يتسحاكي بقي وحيدا في ارض المعركة. اولمرت عبر تحرك عبقري لم يقم باقالة لفني بل عينها وبخطوة لا تقل عن الاولى عبقرية، رئيسة لطاقم المفاوضات مع الفلسطينيين، الامر الذي هدأ الاحوال نسبيا من ناحيتها.
بعد ذلك قام بقص عمير بيرتس واخراجه من وزارة الدفاع في ضربة واحدة. انتصار اهود براك في حزب العمل اتاح لاولمرت اعادة صديقه القديم لمقر وزارة الدفاع والتخلص من الثقل المشورب الذي كان معلقا على رقبته كحجر الرحى. اليوم اصبح يحن الى ذلك الثقل.
متورطون بصورة تكرارية
في هذه المرحلة نحن ننتقل الى "التقارير الاجنبية". الهجوم على سوريا استوجب الكثير من الشجاعة. اولمرت أبدى قدرة على اتخاذ القرارات والابقاء على الهدوء النفسي. لو فشلت هذه العملية لما كانت لديه فرصة اضافية. هو عرف ان هذه رصاصته الاخيرة التي يملكها. أطلق فأصاب. وبين هذا وذاك قام ببلورة استعراض سلمي كبير وصل الى ذروته في انابوليس وحوله في هذه المرحلة على الاقل الى عزيز الصحافة واليسار والاوروبيين والامريكيين والعالم العربي المعتدل.
عموما عند النظر في المحيط والتحقق من البدائل نرى بنيامين نتنياهو واهود براك. توأم يكرر عودته في كل مرة من جديد وبعدها يعود للانطواء على نفسه. هذان الاثنان يحرصان على السقوط مرة تلو الاخرى في نفس برميل الحشرات الذي كانا قد نجيا منه بصعوبة في المرة السابقة.
براك تورط في الشهر الاخير في جلبة حزبية عفنة ترتبط بدستور حزب العمل وصلاحيات الحجز المسبق للمقاعد في قائمة الكنيست وغيرها من الامور التي لم يكن عليه ان يحفر حولها وينبشها أصلا. وفي خضم ذلك فقد الرجل التنفيذي المسؤول عن العمليات السياسية الناجعة لديه وبقي وحيدا. هذا الامر الذي تبرهن في السابق انه خطير جدا.
الخطيئة القديمة
ونتنياهو؟ في كل ما يمكن لبراك ان يتورط به، يبدي نتنياهو قدرة اسرع وافضل على الوقوع به. عنده ايضا على سبيل المثال ولدت مبادرة لاعطاء رئيس الليكود صلاحية التعيين المسبق لمقعدين في كل عشرية في قائمة الكنيست. هو نجح في ذلك وأعد لنفسه القائمة الافضل والاهدأ من اعضاء الكنيست المحيطين به، ولكنه في خضم ذلك اشعل نارا كبيرة. لماذا؟ هكذا. لماذا الان؟ لانه اصيب بالضجر.
وهكذا يتبين لنا ان هذا ما يوجد لدينا الان. اولمرت، براك ونتنياهو. هذه الثلاثية التي سيخرج منها القائد القادم لاسرائيل. وهذا امر يبعث على الاكتئاب الكبير. ثلاثة اشخاص ذوي مواهب كل في مجاله، ولكنهم مثيرون كبيرون للمشاكل. اذا عدنا لاولمرت فمن الواضح انه سياسي موهوب وصاحب قدرات وسرعة بديهة، ولكن عجرفته وتهوره وسطحيته هي التي تقوم بالعمل عنده.
عنده، وقد كتب هذا عدة مرات، نعود دائما الى الخطأ القديم وأم كل الخطايا. عندما أصر على تعيين عمير بيرتس وزيرا للدفاع في دولة اسرائيل حتى يعطي حقيبة المالية لرفيقه ابراهام هيرشيزون. لم تجد المناشدات والتحذيرات نفعا، تحذير دوف فايسغلاس له في تلك الليلة بأن من المحظور عليه ان يقوم بخطوة كهذه لاقى آذان صماء. بيرتس دخل الى وزارة الدفاع بقوة فتحولت هذه الوزارة الى قبره السياسي. المهم هو ان يحصل هيرشيزون على خزينة الدولة فينام اولمرت بسكينة.
بعد ذلك اتضح ان هذا التعيين لم يتحول الى قبر لعمير بيرتس فقط، وانما اضاف قبورا اخرى كثيرة لأعزائنا. رئيس وزراء ووزير دفاع ورئيس هيئة اركان هم الذين قادونا الى حرب فاشلة، ومغامرة دموية لا داعي لها تجبي منا الثمن حتى الآن.
اثنان منهم قد دفعوا الثمن، أما الثالث فقد نجا بنفسه من دون أية اصابات. اذا استطاع اولمرت بالفعل اجتياز تقرير فينوغراد النهائي فسيبرهن نهائيا انه لا يوجد له منافسون في الساحة السياسية. في السنة القادمة يجدر به ان يبرهن انه ليس سياسيا جيدا فقط، وانما رجل دولة جيد ايضا. هذا الامر سيكون أصعب. فقد وزع اولمرت في الاشهر الاخيرة شيكات كثيرة لكل من يطلبها تقريبا. في رام الله، وبروكسل، وواشنطن، والقاهرة. الاصدقاء سيودعون الشيكات للصرف عما قريب، موعد السداد اصبح في الأفق.
المفاوضات مع الفلسطينيين تبدو في وضع لا بأس به في التلفاز. ولكن على الارض يمكن لها ان تنفجر. التوقعات عالية والمخاطر شديدة. الادارة الامريكية ستتبدل ولبنان يتأرجح وحماس ما زالت مسيطرة على القطاع وعسقلان ستصبح عما قريب في مدى صواريخ القسام. اولمرت الذي جس نبض السوريين وعرج عن خريطة الطريق وألقى خطابات مثيرة للاعجاب، سيضطر الى التنفيذ في السنة القادمة. وما سيفعله سيكون خطيرا.
عموما نقول يا ليت لو ان ما فعله اولمرت خلال تلك الحرب قريبا بدرجة ما مما فعله بعدها في خضم معركة البقاء السياسية التي خاضها. على أية حال اهود اولمرت هو رئيس الوزراء، وكما تبدو الامور الان عشية نشر الفصل الختامي من تقرير فينوغراد سينهي عام 2008 في نفس المنصب.
__________________________________________________ ________
في يوم الاثنين، الثلاثين من نيسان استقبل رئيس الوزراء اهود اولمرت اعضاء لجنة فينوغراد في ديوانه في القدس. بعد مغادرتهم بدقائق تحولت فترة ما بعد الظهر المقدسية الربيعية اللطيفة الى احدى ظهيرات تقلبات الأهواء.
كلما كان يتعمق في تصفح التقرير كلما تلاشت الابتسامة عن وجه اولمرت بسبب ما يقرأه هناك. مستشاروه المقربون الذين انقضوا على الكلمات اصيبوا بالشحوب والاصفرار دفعة واحدة. في غضون ذلك قام أحدهم بفتح التلفاز فدوى صوت القاضي فينوغراد المتناغم في المؤتمر الصحفي في الغرفة، وهو يذبح اولمرت في بث حي.
ديوان رئيس الوزراء ذكّر بالتايتانيك في تلك الساعات، موجة من الهستيريا والاكتئاب ومشاعر يوم الحساب وأجواء كئيبة – كل هذه العناصر امتزجت معا بسبب تقرير لجنة التحقيق التي عينها اولمرت بنفسه، والذي تضمن احدى الفقرات الأشد قسوة وصعوبة التي كتبت حول قائد في اسرائيل منذ اقامة الدولة.
قبل ذلك بيومين نشرت احدى قنوات التلفاز ان التقرير يتضمن انتقادات صغيرة لاولمرت على طراز "تصرف بتهور". أتباع رئيس الوزراء فرحوا لقراءة هذه الكلمات، فالتهور مسألة مقبولة وهي صغيرة عليهم. ولكن ما ان نشر التقرير الحقيقي حتى سقط السقف فوق رؤوسهم. هم أعدوا خطة عمل تفصيلية وتقاسموا بينهم محطات التلفاز والاذاعة والمهمات المختلفة لاعطاء الردود واطلاق التصريحات آملين باجتياز هذا اليوم بالحد الادنى من الاصابات. ولكن ها هو كل شيء ينهار دفعة واحدة.
بعض حلفاء اولمرت السياسيين شوهدوا في ذلك المساء وهم يفرون من الاستوديوهات في رعب وكأنهم شاهدوا غولا جبارا، وانتشروا في كل صوب. "لم نسمع بأمر مثل هذا"، تمتم أحد المقربين جدا لرئيس الوزراء، "عليه الان ان يغادر". الوحيد الذي حاول رد الحرب بالحرب كان روني بار أون، الذي تشبث بملاحظة هامشية في التقرير ("الخطأ يجب ان يُصوب")، حاول اقناع المشاهدين والمستمعين ان اولمرت هو الوحيد القادر على تقويم الاخطاء والاخلالات. في ذلك المساء اعتبره الناس غريب الاطوار.
اولمرت سمع خلال المداولات الداخلية في ديوانه في ذلك المساء امورا متشابهة من كل أتباعه، إذ قالوا له انه لا يستطيع البقاء في منصبه بعد تقرير كهذا. الوحيد الذي لم يتفق مع هذا التشخيص ولو للحظة واحدة كان المرحوم نفسه. اهود اولمرت كان مصمما على الاستمرار رغم حالة الاكتئاب وردود الافعال الفتاكة في وسائل الاعلام ووضعه الجسدي الضعيف. كل من حاول التلميح له بأن عليه ان يفكر بالاستقالة، أُنب فورا.
في تلك الليلة وبعد نشر التقرير كان هناك اجماع شبه تام تقريبا بين كل المحللين بأن مصير اولمرت قد حسم.
أعجوبة طبية
قبيل الساعة الحادية عشرة ليلا بدأ اولمرت اتصالاته الهاتفية بصناع الرأي العام المؤثرين عليه، من تحدث معه في تلك الليلة سمع من الطرف الاخر صوت شخص محطم مفتقد للثقة الذاتية مناشدا تقريبا للابقاء على حياته. الغطرسة والعجرفة اختفتا، كما ان التكبر رحل عن هذا العالم. ولكن من داخل الحفرة السوداء ما زالت هناك مؤشرات للحياة بعد.
وها هي ثمانية اشهر تمر منذئذ، واولمرت ما زال هنا. أعجوبة طبية حقيقية. واكثر من ذلك: خلال الفترة التي مرت منذ ان قضي على رئيس الوزراء على يد اللجنة التي شكلها لتقصي حقائق حرب لبنان الثانية، تحول الى نجم في البرامج الواقعية الشعبية تحت عنوان "البقاء" في المنصب نفسه. هذه البرامج لم تصور في جزر الكاريبي وانما حدثت على ارض الواقع في حقول الصيد الأبدية – السياسة الاسرائيلية.
اولمرت لم يكن محاطا بعارضات أزياء بملابس السباحة، وانما بتماسيح واسماك مفترسة تطلب روحه. المسؤولية الفادحة التي وجهت اليه عن الحرب كانت مصيبة واحدة فقط، ويضاف اليها يارون زليخة وميخا ليندنشتراوس والتحقيقات البوليسية التي لا تنتهي و3 في المائة مهينة في استطلاعات الرأي، فتحصلون بذلك على حرب ضارية ضد كل الاحتمالات.
بكلمات اخرى: تايتانيك اولمرت اصطدمت بجبل الجليد فغرق الجليد نفسه، أما هي فما زالت تمخر عباب البحر بنشاط متقدمة الى الأمام، حتى ان هناك نغمات موسيقية اولى لطيفة بدأت تسمع من على ظهر هذه السفينة. اولمرت تمكن من البقاء. الامر ليس محسوما بعد.
"مستر سلام"
ما زال أمام اولمرت شهر سيء وفصل الختام البطولي للمسلسل. ولكن ذلك ايضا سيكون مفاجأة مدوية. الان عشية صدور التقرير النهائي للجنة فينوغراد قام اولمرت بتركيب شبكة دفاعية ناجعة لنفسه وغير قابلة للاختراق تقريبا. كل ما فعله منذ نشر الفصل الاول من التقرير وكل ما قاله وكل ما فكر به وخططه كان نابعا من دافعية واحدة فقط: كيف يمكنه اجتياز لجنة فينوغراد، والبقاء حيا. كيف يمكنه اعادة بناء شرعيته وترسيخ صلاحياته واقناع الناس والاعلام والجهاز السياسي بضرورة وجوده.
اولمرت نجح في انجاز هذه المهمات. هو يواجه الان المعركة الاخيرة. في ظل مجريات الامور حاليا يبدو ان أعداءه هم الذين اصيبوا بالارهاق بالتحديد. بعضهم مثل زليخة لم يعودوا معنا، وآخرون يُعدون انفسهم للمعركة الاخيرة منذ عام ومع ذلك لم تأت بعد. جثة اولمرت السياسية ما زالت ترفس وتتحرك بدلا من ان تبرد. قبل مدة غير بعيدة صرح للناس بأن رئيس الوزراء في اسرائيل ليس بحاجة الى أجندة. هذا كان تصريحا اضافيا في سلسلة طويلة من الكبوات والاخطاء الاولمرتية النابعة من حقيقة انه لا يمكن اعطاء هذا الشخص نصيحة أو تخفيض مستوى رضاه عن نفسه ولو بقليل.
ولكن حينئذ ودفعة واحدة تقريبا ادرك مجريات الامور. بين ليلة وضحاها حول اولمرت نفسه الى "مستر سلام". شغف بأبو مازن ولاءم مساره مع يوسي بيلين وانقض على السلام وكأنه قد حصل على غنائم كبيرة. رويدا رويدا، اصبع تلو اصبع، خلص اولمرت نفسه من قبره السياسي ووجد لنفسه أجندة قديمة متجددة: غريزة البقاء. هذه الدافعية الاقوى والطبيعية المطلوبة جدا للجنس البشري: الرغبة في البقاء حيا والتشبث بقرون السلطان بكل قوة وضد كل الاحتمالات والاستطلاعات والتخمينات والرثاء.
ما فعله اولمرت في هذه الاشهر سيدخل في مرحلة ما في كتب التدريس حول البقاء السياسي. هو فشل في حرب الصيف التي شنها، أما الحرب التي فرضت عليه بعدئذ فقد كسبها. هذه كانت حربه.
المهمة الاولى كانت قمع التمرد الداخلي في كديما، وقد تم له ذلك بسهولة نسبية. تسيبي لفني تلعثمت وديختر فر وافيغدور يتسحاكي بقي وحيدا في ارض المعركة. اولمرت عبر تحرك عبقري لم يقم باقالة لفني بل عينها وبخطوة لا تقل عن الاولى عبقرية، رئيسة لطاقم المفاوضات مع الفلسطينيين، الامر الذي هدأ الاحوال نسبيا من ناحيتها.
بعد ذلك قام بقص عمير بيرتس واخراجه من وزارة الدفاع في ضربة واحدة. انتصار اهود براك في حزب العمل اتاح لاولمرت اعادة صديقه القديم لمقر وزارة الدفاع والتخلص من الثقل المشورب الذي كان معلقا على رقبته كحجر الرحى. اليوم اصبح يحن الى ذلك الثقل.
متورطون بصورة تكرارية
في هذه المرحلة نحن ننتقل الى "التقارير الاجنبية". الهجوم على سوريا استوجب الكثير من الشجاعة. اولمرت أبدى قدرة على اتخاذ القرارات والابقاء على الهدوء النفسي. لو فشلت هذه العملية لما كانت لديه فرصة اضافية. هو عرف ان هذه رصاصته الاخيرة التي يملكها. أطلق فأصاب. وبين هذا وذاك قام ببلورة استعراض سلمي كبير وصل الى ذروته في انابوليس وحوله في هذه المرحلة على الاقل الى عزيز الصحافة واليسار والاوروبيين والامريكيين والعالم العربي المعتدل.
عموما عند النظر في المحيط والتحقق من البدائل نرى بنيامين نتنياهو واهود براك. توأم يكرر عودته في كل مرة من جديد وبعدها يعود للانطواء على نفسه. هذان الاثنان يحرصان على السقوط مرة تلو الاخرى في نفس برميل الحشرات الذي كانا قد نجيا منه بصعوبة في المرة السابقة.
براك تورط في الشهر الاخير في جلبة حزبية عفنة ترتبط بدستور حزب العمل وصلاحيات الحجز المسبق للمقاعد في قائمة الكنيست وغيرها من الامور التي لم يكن عليه ان يحفر حولها وينبشها أصلا. وفي خضم ذلك فقد الرجل التنفيذي المسؤول عن العمليات السياسية الناجعة لديه وبقي وحيدا. هذا الامر الذي تبرهن في السابق انه خطير جدا.
الخطيئة القديمة
ونتنياهو؟ في كل ما يمكن لبراك ان يتورط به، يبدي نتنياهو قدرة اسرع وافضل على الوقوع به. عنده ايضا على سبيل المثال ولدت مبادرة لاعطاء رئيس الليكود صلاحية التعيين المسبق لمقعدين في كل عشرية في قائمة الكنيست. هو نجح في ذلك وأعد لنفسه القائمة الافضل والاهدأ من اعضاء الكنيست المحيطين به، ولكنه في خضم ذلك اشعل نارا كبيرة. لماذا؟ هكذا. لماذا الان؟ لانه اصيب بالضجر.
وهكذا يتبين لنا ان هذا ما يوجد لدينا الان. اولمرت، براك ونتنياهو. هذه الثلاثية التي سيخرج منها القائد القادم لاسرائيل. وهذا امر يبعث على الاكتئاب الكبير. ثلاثة اشخاص ذوي مواهب كل في مجاله، ولكنهم مثيرون كبيرون للمشاكل. اذا عدنا لاولمرت فمن الواضح انه سياسي موهوب وصاحب قدرات وسرعة بديهة، ولكن عجرفته وتهوره وسطحيته هي التي تقوم بالعمل عنده.
عنده، وقد كتب هذا عدة مرات، نعود دائما الى الخطأ القديم وأم كل الخطايا. عندما أصر على تعيين عمير بيرتس وزيرا للدفاع في دولة اسرائيل حتى يعطي حقيبة المالية لرفيقه ابراهام هيرشيزون. لم تجد المناشدات والتحذيرات نفعا، تحذير دوف فايسغلاس له في تلك الليلة بأن من المحظور عليه ان يقوم بخطوة كهذه لاقى آذان صماء. بيرتس دخل الى وزارة الدفاع بقوة فتحولت هذه الوزارة الى قبره السياسي. المهم هو ان يحصل هيرشيزون على خزينة الدولة فينام اولمرت بسكينة.
بعد ذلك اتضح ان هذا التعيين لم يتحول الى قبر لعمير بيرتس فقط، وانما اضاف قبورا اخرى كثيرة لأعزائنا. رئيس وزراء ووزير دفاع ورئيس هيئة اركان هم الذين قادونا الى حرب فاشلة، ومغامرة دموية لا داعي لها تجبي منا الثمن حتى الآن.
اثنان منهم قد دفعوا الثمن، أما الثالث فقد نجا بنفسه من دون أية اصابات. اذا استطاع اولمرت بالفعل اجتياز تقرير فينوغراد النهائي فسيبرهن نهائيا انه لا يوجد له منافسون في الساحة السياسية. في السنة القادمة يجدر به ان يبرهن انه ليس سياسيا جيدا فقط، وانما رجل دولة جيد ايضا. هذا الامر سيكون أصعب. فقد وزع اولمرت في الاشهر الاخيرة شيكات كثيرة لكل من يطلبها تقريبا. في رام الله، وبروكسل، وواشنطن، والقاهرة. الاصدقاء سيودعون الشيكات للصرف عما قريب، موعد السداد اصبح في الأفق.
المفاوضات مع الفلسطينيين تبدو في وضع لا بأس به في التلفاز. ولكن على الارض يمكن لها ان تنفجر. التوقعات عالية والمخاطر شديدة. الادارة الامريكية ستتبدل ولبنان يتأرجح وحماس ما زالت مسيطرة على القطاع وعسقلان ستصبح عما قريب في مدى صواريخ القسام. اولمرت الذي جس نبض السوريين وعرج عن خريطة الطريق وألقى خطابات مثيرة للاعجاب، سيضطر الى التنفيذ في السنة القادمة. وما سيفعله سيكون خطيرا.
عموما نقول يا ليت لو ان ما فعله اولمرت خلال تلك الحرب قريبا بدرجة ما مما فعله بعدها في خضم معركة البقاء السياسية التي خاضها. على أية حال اهود اولمرت هو رئيس الوزراء، وكما تبدو الامور الان عشية نشر الفصل الختامي من تقرير فينوغراد سينهي عام 2008 في نفس المنصب.