ghazooi
02-22-2005, 06:11 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
المحور الأول ( قسوة القلب ) : -
ما هي أسباب قسوة القلب؟
ربما تكون الإجابة على هذا السؤال لا يتعدى بضع سطور أو بضع كلمات ناتجة عن دراسة لبعض الروايات و الأحاديث ، أو لبعض المواقف التي تعكس تجارب الإنسان في الحياة المعيشية الإعتيادية .
ليس المهم أن نشرح السبب العلمي التحليلي لقسوة القلب فهذا ليس من إختصاصي لكن و بشكل سريع لابد إن ندرس هذه الظاهرة بقدر ما هو الأهم من ذلك كله وهو تجذّر الحالة الإسلامية الواعية في ضمير كل شخص ، فقسوة القلب موضوع شائك ، وله جذوره البيئية و التربوية و الأسرية والاجتماعية ، وهو سلوك شاذ منحرف عن الطبيعة السوية للإنسان ، حيث تنحرف بالشخصية إلى شخصية إنطوائية باردة لا مبالاة فيها بشعور الآخرين ، أو تخلق جواً من العفن النفسي و خشونة القلب إن صحّ التعبير بسبب شعور الإنسان بكثير من اضطرابات داخلية على مستويات عديدة ، ولكي نبسط الموضوع بصورة سلسة و موضوعية ، لا بدّ أن نجزأ الموضوع :
ما هي القسوة؟
القسوة حينما نبحث عنها في المعاجم اللغوية هي الشدة والغلظة، وهذه الشدة والغلظة تتصاعد في منحنيات عديدة، فإنها تتراكم نتيجة الخطأ التربوي في المنزل ، وتتنامى نتيجة الأيديولوجيات الخاطئة ، و تنشأ نتيجة التركيبة البيلوجية الخاطئة ، وتظهر نتيجة الاحباطات النفسية أو البيئية المحيطة بالإنسان ، وتتصاعد نتيجة الصدمات المعنوية .
و قد جاء تعبير القسوة في القرآن المجيد في عدة آيات و تعريفها غِلَظ القلب ، ونرى هـذا الاستعمال بقوة في قوله تعالى(( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )) وقوله تعالى (( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله )) .
إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين كتبوا عن الإيمان و علاقة القلب والقسوة ، و آية الله الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب ( رضوان الله عليه ) ركز في صفات القسوة على جوانب الآتية نختصرها بصوة موجزة :
1ـ القاسي هو الذي لا يخضع للحق ولا يخشع أمامه ، أي لا يصبح ذليلاً منقاداً له ومسلماً.
2 ـ لا يظهر عليه الخشوع أمام الحق .
3 ـ النصيحة والتحذير لا تتركان أثراً عليه .
4 ـ لا تؤثر فيه المشاهد التي تدعوا للرقة كتأوه المظلوم، أو شكوى اليتيم، أو عجز الضعيف، بحيث يتصرف حيالها كمن لم يرَ ولم يسمع.
إذنّ القسوة ذنب للقلب الإنساني كبير يستوجب التوبة الفورية والسعي الحثيث لعلاجه ، ولا شكّ أنّ مصطلح ( ذنب) في المقام الفعلي يحدث مضاعـفات طولية وعرضية ويترك آثار سلبية في شخصية المسلم ، ويبعد بنا عن واقع السلوكية الإيمانية التقية .
و يجب أن نعلم ان قسوة القلب مرض يدخل ضمن السلوك العصبي، وهو مرض نفسي أو عصبي وظيفي، ينطوي عليه مجموعة من الأعراض النفسية ، كالإنفعالات المكبوتة، والصدمات المفاجئة ، والصراع الشخصي الداخلي ، و اضطراب وظيفي يطرأ على الجهاز العصبي، تعود جذوره إلى منشأ القلبي و النفسي .
و من آثاره على شخصية الإنسان يجعله قليل الصبر و التفكير ، و الخوف من عواقب الأمور و المستقبل ، و يجعله عصبي المزاج وسريع الغضب والانفعال ، و يزرع في القلب الكبر و التكبر ، ويغرس في النفس جنون العظمة و الكبرياء ، و حب النفس الذاتية و الأنانية .
و يؤدي مرض القسوة و الغلظة في آخر المطاف إلى الطمع و الجشع و الحقد و الحسد ، و يؤدي إلى الوحشية و الهمجية و العصبية ، و يؤدي الى جمود القلب و العقل و الى الهلوسة الفكرية ، و يؤدي الى الإنعزال و التباعد و التنافر و الوحدة قال تعالى مخاطبا ً رسول الله (( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ )) .
و نجد ان القرآن الكريم يتطرق الى هذا المرض بقضايا فكرية كقوله تعالى عندما يتحدث عن سلوك المنافقين (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً )) ، إشارة إلى مرض القلب و الفكر الغير واعي عند المنافق ، وتارة يتعامل القرآن مع مرض القلب في قضايا نفسية حيوية عاطفية محركة للشهوة ، كما في قوله تعالى (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )) ، إشارة إلى الحذر بكيفية أسلوب مخاطبة الجنس الناعم ( المرأة ) .
إذن نستنتج من ذلك إن القلب هو وعاء الإنسان الداخلي الذي يعكس أفعال الإنسان و يترجم سلوكياته ، و القلب هو الصورة الحقيقية لمظهر الإنسان و ليس الشكل الخارجي المظهري المزيف ، و القلب هو المرآة الأصلية لشخصية الإنسان العملية حيث يقول رسول الله الأعظم صلى الله عليه و آله ( إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
ما هي أسباب قسوة ؟
في الفكر الإسلامي و فكر أهل بيت الرحمة ( صلوات الله عليهم) كمّ من الروايات و الأحاديث المهمة التي تبلور الأسباب التي تعمل على قسوة القلب ، وبُعده عن روح البراءة الأولية و روح الفطرة الإنسانية ، ومن هذه الأسباب :
أولا ً : أكل الحـرام :
إن أكل الطعام الحرام و لحم الخنزير و اللحم الغير مذكى عن قصد أو بغير قصد تميت القلب كما جاء في احاديث اهل البيت عليهم السلام ، و تلوث الروح و النفس الإنسانية بالروح و النفس الشيطانية !!
و كم من الناس يأكل الطعام المشكوك به المشبوه به من المطاعم المحلية دون السؤال أو استفسار عن حلية الطعام ؟؟
عن نوع اللحم ؟؟ عن طريقة الذبح ؟؟ عن البلد السمتورد منه اللحم ؟؟
هل تم الذبح بالطريقة الإسلامية أو لا ؟؟ هل اللحم مجمد او طازج ؟؟ هل البلد المستورد منه إسلامي أو لا ؟؟
يجب عـلينا أن نتيقن 100 % و نطمأن من الطعام قبل الأكل لكي لا نملأ بطوننا بالحرام و بالنار .
و يجب أن ندرك جيدا ً ليس كل ما يكتب على الطعام حلال فهذا يعني إنه حلال ، لأننا يجب إن نفرق بين الوسائل الدعائية الكاذبة من ناحية و ناحية الصدقية و المصداقية و الثقة .
و أيضا ً علينا أن لا نسى مسألة كثرة الأكل التي تؤدي إلى كسول الجسد و خمول العقل و جمود القلب .
والتشريع الإلهي يطالب المسلم بتحقيق الإشباع الحيوي الغذائي بعيدا ً عن الإسراف في الاكل و الزيادة المفرطة و المبالغة عن حاجة المعدة ، حيث إن الزيادة عن حد الإشباع تسبب إلى الفوضى و الإختلال في النظام التركبي في الأجهزة داخل جسم الإنسان و يشكل مثل هذا الإشباع طابعاً مرضياً يؤثر على الدورة الدموية للقلب .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله ( من تعوّد كثرة الطعام والشراب قسا قلبه )
و قال صلى الله عليه و آله ( لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب ، فإنّ القلوب تموت كالزرع إذا أكثر عليه الماء )
و قال أمير المؤمنين عليه السلام ( كثرة الأكل والنوم يفسدان النفس و يجلبان المضرة )
و قال الإمام الصادق عليه السلام ( أقرب ما يكون العبد من الله إذا خفّ بطنه ، وأبغض ما يكون العبد من الله إذا امتلأ بطنه ) .
و بما إن الإنسان بحكم طبيعته البشرية يحب الطعام يمكن أن يسيء استخدام الأكل و الشرب إلى مزالق الإسراف والتبذير و قد حذر الله سبحانه من ذلك بقوله تعالى (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) .
ثانيا ً : إستماع الغـناء :
حرّمت الشريعة الإسلامية الاستماع إلى الغـناء و الطرب و الجلوس في المجالس اللهوية ، لأن الغناء ينمي في النفس أجواء اللامبالاة و عـدم الحس و الشعور لأن الغناء ينسي القلب و العقل الحالة التي كان عليها الإنسان لستبدلها بحالة من النسيان و اللهو و اللعب و الرقص الغير إرادي الغير واعي اللاشعوري يقلب التوازن الداخلي للشخصية ، وهو توازن طالما يلحّ التشريع على تحقيقه ، فالغناء يؤدي إلى فساد القلب و العقل و هذا يؤدي إلى فساد شخصية المؤمن و يحولها لشخصية المنافق ، ولنا أن نعرف أنّ هناك جذراً نفسياً لظاهرة الغناء قائمة على أسس توازنية ، فالغناء ينمّي النزعة العدوانية عند الشخصية متمثلة في ظاهرة القسوة و ذلك بقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ( ثلاثة يقسين القلب : استماع اللهو و . . . . . ) .
قال صلّى الله عليه وآله ( أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر : استماع اللهو و . . . . )
و قال صلى الله عليه و آله ( ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو، وطلب الصيد، وإتيان باب السلطان) .
و قال الإمام الصادق عليه السلام ( الغناء يورث النفاق ) .
فالروايات الشريفة تعكس حالة مرضية ، وهي قسم من الأمراض السيكوباتية ، حيث تشير إلى مؤشر مرضي في الشخصية وهي (القسوة) وما تفرزه من أنماط عدوانية في السلوك، بالغة الخطورة على صعيد الواقع الخارجي، وهي التي تسمّى بالشخصية القاسية الفاسدة المنافقة التي انتزعت منها الرحمة و الرأفة و الشفقة .
ثالثا ً : الثراء الفاحـش :
الثروة بذاتها لا تشكل حاجة من حاجات الإنسان الأساسية اليومية إلا إنها ليست بحرام إذا أحسن التصرف بالثروة أما إذا اسيء التصرف بها ساءت على حياة الإنسان نفسه و شخصيته ، فالثروة وسيلة لحاجة ما و الثروة سلاح ذوي حدين إما أن تأتي بالخير على قلب الإنسان أو تأتي بالشر على قلب الإنسان .
وعندما ندقق في الآيات القرآنية نرى أنّ القرآن الكريم يومئ إلى ظاهرة جمع المال من خلال التنديد به و التحذير منه ، ولفت النظر إلى متاعه العابر، فيقول عزّ وجلّ في أكثر من آية قرآنية (( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ )) ، (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) ، (( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا )) .
ولكن هذه النظرة ليست نظرة مطلقة واحدة ، فالشرع الإسلامي إنما ذمّ حالة الثراء ، الذي يكون في صورة تكنيز الأموال و عبادة المال كما في قوله تعالى (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) .
فالقرآن الكريم يصور إستخدام للمال قيمة أساسية إذا وظّف بصورة سليمة في الإنفاق و الزكاة الذي يعود على نفس الإنسان و روحه و قلبه بالطهارة و التزكية و ذلك في قوله عز و جل (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ))
لكن إذا أسيء إستغلال جمع المال فإن نتائجه تنعكس على شخص الإنسان و قد حذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله ( كثرة المال تفسد القلوب وتنسي الذنوب ) .
ونحن نرى هذا بالواقع أنّ طبيعة أصحاب الثروات مثل الملوك على مر الدهر منذ بني الفراعنة مرورا ً ببني أمية و بني عباس مرورا لعصرنا نجد ان الملوك هم آخر فئة يفكرون بشعوبهم ، و قد حذر النبي صلى الله عليه و آله من مجالستهم .
حيث يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله : " إياكم ومجالسة الموتى ".
قيل: " يا رسول الله ومن الموتى؟ "
قال صلّى الله عليه وآله : " الأغنياء " .
أي أغلب الأغنياء ملكوا الكنوز ومتاع الدنيا بإتباعهم طرق الفساد من كذب و نفاق واحتكار و غش وربح فاحش وبيع للقيم، وتضييع حقوق الناس أو بميلهم إلى أسباب الضلال ، فتتحول قلوبهم الى قلوب مظلمة قد أقفرت من روح الإيمان، وغشيتها ظلمة الشهوات.
رابعا ً : كثرة الذنـوب :
فإن كثرة الذنوب و المعاصي من أهم و أبرز الأسباب التي تعمل على قسوة القلب ، فالمجرم لا يرتكب جريمته إلا لأن قلبه قاسي ، ففي هذا السبب أمثلة لا حصر لها و أحاديث كبيرة نوجزها بحديثين .
يقول رسول الله الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم مخاطبا ً الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري ( يا أبا ذر إن القلب القاسي بعيد عن الله و لكن لا تشعرون ) .
و يقول أمير المؤمنين عليه السلام ( ما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب ) .
يتبع جزء ثالث
تحياتي
ghazooi
المحور الأول ( قسوة القلب ) : -
ما هي أسباب قسوة القلب؟
ربما تكون الإجابة على هذا السؤال لا يتعدى بضع سطور أو بضع كلمات ناتجة عن دراسة لبعض الروايات و الأحاديث ، أو لبعض المواقف التي تعكس تجارب الإنسان في الحياة المعيشية الإعتيادية .
ليس المهم أن نشرح السبب العلمي التحليلي لقسوة القلب فهذا ليس من إختصاصي لكن و بشكل سريع لابد إن ندرس هذه الظاهرة بقدر ما هو الأهم من ذلك كله وهو تجذّر الحالة الإسلامية الواعية في ضمير كل شخص ، فقسوة القلب موضوع شائك ، وله جذوره البيئية و التربوية و الأسرية والاجتماعية ، وهو سلوك شاذ منحرف عن الطبيعة السوية للإنسان ، حيث تنحرف بالشخصية إلى شخصية إنطوائية باردة لا مبالاة فيها بشعور الآخرين ، أو تخلق جواً من العفن النفسي و خشونة القلب إن صحّ التعبير بسبب شعور الإنسان بكثير من اضطرابات داخلية على مستويات عديدة ، ولكي نبسط الموضوع بصورة سلسة و موضوعية ، لا بدّ أن نجزأ الموضوع :
ما هي القسوة؟
القسوة حينما نبحث عنها في المعاجم اللغوية هي الشدة والغلظة، وهذه الشدة والغلظة تتصاعد في منحنيات عديدة، فإنها تتراكم نتيجة الخطأ التربوي في المنزل ، وتتنامى نتيجة الأيديولوجيات الخاطئة ، و تنشأ نتيجة التركيبة البيلوجية الخاطئة ، وتظهر نتيجة الاحباطات النفسية أو البيئية المحيطة بالإنسان ، وتتصاعد نتيجة الصدمات المعنوية .
و قد جاء تعبير القسوة في القرآن المجيد في عدة آيات و تعريفها غِلَظ القلب ، ونرى هـذا الاستعمال بقوة في قوله تعالى(( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )) وقوله تعالى (( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله )) .
إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين كتبوا عن الإيمان و علاقة القلب والقسوة ، و آية الله الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب ( رضوان الله عليه ) ركز في صفات القسوة على جوانب الآتية نختصرها بصوة موجزة :
1ـ القاسي هو الذي لا يخضع للحق ولا يخشع أمامه ، أي لا يصبح ذليلاً منقاداً له ومسلماً.
2 ـ لا يظهر عليه الخشوع أمام الحق .
3 ـ النصيحة والتحذير لا تتركان أثراً عليه .
4 ـ لا تؤثر فيه المشاهد التي تدعوا للرقة كتأوه المظلوم، أو شكوى اليتيم، أو عجز الضعيف، بحيث يتصرف حيالها كمن لم يرَ ولم يسمع.
إذنّ القسوة ذنب للقلب الإنساني كبير يستوجب التوبة الفورية والسعي الحثيث لعلاجه ، ولا شكّ أنّ مصطلح ( ذنب) في المقام الفعلي يحدث مضاعـفات طولية وعرضية ويترك آثار سلبية في شخصية المسلم ، ويبعد بنا عن واقع السلوكية الإيمانية التقية .
و يجب أن نعلم ان قسوة القلب مرض يدخل ضمن السلوك العصبي، وهو مرض نفسي أو عصبي وظيفي، ينطوي عليه مجموعة من الأعراض النفسية ، كالإنفعالات المكبوتة، والصدمات المفاجئة ، والصراع الشخصي الداخلي ، و اضطراب وظيفي يطرأ على الجهاز العصبي، تعود جذوره إلى منشأ القلبي و النفسي .
و من آثاره على شخصية الإنسان يجعله قليل الصبر و التفكير ، و الخوف من عواقب الأمور و المستقبل ، و يجعله عصبي المزاج وسريع الغضب والانفعال ، و يزرع في القلب الكبر و التكبر ، ويغرس في النفس جنون العظمة و الكبرياء ، و حب النفس الذاتية و الأنانية .
و يؤدي مرض القسوة و الغلظة في آخر المطاف إلى الطمع و الجشع و الحقد و الحسد ، و يؤدي إلى الوحشية و الهمجية و العصبية ، و يؤدي الى جمود القلب و العقل و الى الهلوسة الفكرية ، و يؤدي الى الإنعزال و التباعد و التنافر و الوحدة قال تعالى مخاطبا ً رسول الله (( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ )) .
و نجد ان القرآن الكريم يتطرق الى هذا المرض بقضايا فكرية كقوله تعالى عندما يتحدث عن سلوك المنافقين (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً )) ، إشارة إلى مرض القلب و الفكر الغير واعي عند المنافق ، وتارة يتعامل القرآن مع مرض القلب في قضايا نفسية حيوية عاطفية محركة للشهوة ، كما في قوله تعالى (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )) ، إشارة إلى الحذر بكيفية أسلوب مخاطبة الجنس الناعم ( المرأة ) .
إذن نستنتج من ذلك إن القلب هو وعاء الإنسان الداخلي الذي يعكس أفعال الإنسان و يترجم سلوكياته ، و القلب هو الصورة الحقيقية لمظهر الإنسان و ليس الشكل الخارجي المظهري المزيف ، و القلب هو المرآة الأصلية لشخصية الإنسان العملية حيث يقول رسول الله الأعظم صلى الله عليه و آله ( إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
ما هي أسباب قسوة ؟
في الفكر الإسلامي و فكر أهل بيت الرحمة ( صلوات الله عليهم) كمّ من الروايات و الأحاديث المهمة التي تبلور الأسباب التي تعمل على قسوة القلب ، وبُعده عن روح البراءة الأولية و روح الفطرة الإنسانية ، ومن هذه الأسباب :
أولا ً : أكل الحـرام :
إن أكل الطعام الحرام و لحم الخنزير و اللحم الغير مذكى عن قصد أو بغير قصد تميت القلب كما جاء في احاديث اهل البيت عليهم السلام ، و تلوث الروح و النفس الإنسانية بالروح و النفس الشيطانية !!
و كم من الناس يأكل الطعام المشكوك به المشبوه به من المطاعم المحلية دون السؤال أو استفسار عن حلية الطعام ؟؟
عن نوع اللحم ؟؟ عن طريقة الذبح ؟؟ عن البلد السمتورد منه اللحم ؟؟
هل تم الذبح بالطريقة الإسلامية أو لا ؟؟ هل اللحم مجمد او طازج ؟؟ هل البلد المستورد منه إسلامي أو لا ؟؟
يجب عـلينا أن نتيقن 100 % و نطمأن من الطعام قبل الأكل لكي لا نملأ بطوننا بالحرام و بالنار .
و يجب أن ندرك جيدا ً ليس كل ما يكتب على الطعام حلال فهذا يعني إنه حلال ، لأننا يجب إن نفرق بين الوسائل الدعائية الكاذبة من ناحية و ناحية الصدقية و المصداقية و الثقة .
و أيضا ً علينا أن لا نسى مسألة كثرة الأكل التي تؤدي إلى كسول الجسد و خمول العقل و جمود القلب .
والتشريع الإلهي يطالب المسلم بتحقيق الإشباع الحيوي الغذائي بعيدا ً عن الإسراف في الاكل و الزيادة المفرطة و المبالغة عن حاجة المعدة ، حيث إن الزيادة عن حد الإشباع تسبب إلى الفوضى و الإختلال في النظام التركبي في الأجهزة داخل جسم الإنسان و يشكل مثل هذا الإشباع طابعاً مرضياً يؤثر على الدورة الدموية للقلب .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله ( من تعوّد كثرة الطعام والشراب قسا قلبه )
و قال صلى الله عليه و آله ( لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب ، فإنّ القلوب تموت كالزرع إذا أكثر عليه الماء )
و قال أمير المؤمنين عليه السلام ( كثرة الأكل والنوم يفسدان النفس و يجلبان المضرة )
و قال الإمام الصادق عليه السلام ( أقرب ما يكون العبد من الله إذا خفّ بطنه ، وأبغض ما يكون العبد من الله إذا امتلأ بطنه ) .
و بما إن الإنسان بحكم طبيعته البشرية يحب الطعام يمكن أن يسيء استخدام الأكل و الشرب إلى مزالق الإسراف والتبذير و قد حذر الله سبحانه من ذلك بقوله تعالى (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) .
ثانيا ً : إستماع الغـناء :
حرّمت الشريعة الإسلامية الاستماع إلى الغـناء و الطرب و الجلوس في المجالس اللهوية ، لأن الغناء ينمي في النفس أجواء اللامبالاة و عـدم الحس و الشعور لأن الغناء ينسي القلب و العقل الحالة التي كان عليها الإنسان لستبدلها بحالة من النسيان و اللهو و اللعب و الرقص الغير إرادي الغير واعي اللاشعوري يقلب التوازن الداخلي للشخصية ، وهو توازن طالما يلحّ التشريع على تحقيقه ، فالغناء يؤدي إلى فساد القلب و العقل و هذا يؤدي إلى فساد شخصية المؤمن و يحولها لشخصية المنافق ، ولنا أن نعرف أنّ هناك جذراً نفسياً لظاهرة الغناء قائمة على أسس توازنية ، فالغناء ينمّي النزعة العدوانية عند الشخصية متمثلة في ظاهرة القسوة و ذلك بقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ( ثلاثة يقسين القلب : استماع اللهو و . . . . . ) .
قال صلّى الله عليه وآله ( أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر : استماع اللهو و . . . . )
و قال صلى الله عليه و آله ( ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو، وطلب الصيد، وإتيان باب السلطان) .
و قال الإمام الصادق عليه السلام ( الغناء يورث النفاق ) .
فالروايات الشريفة تعكس حالة مرضية ، وهي قسم من الأمراض السيكوباتية ، حيث تشير إلى مؤشر مرضي في الشخصية وهي (القسوة) وما تفرزه من أنماط عدوانية في السلوك، بالغة الخطورة على صعيد الواقع الخارجي، وهي التي تسمّى بالشخصية القاسية الفاسدة المنافقة التي انتزعت منها الرحمة و الرأفة و الشفقة .
ثالثا ً : الثراء الفاحـش :
الثروة بذاتها لا تشكل حاجة من حاجات الإنسان الأساسية اليومية إلا إنها ليست بحرام إذا أحسن التصرف بالثروة أما إذا اسيء التصرف بها ساءت على حياة الإنسان نفسه و شخصيته ، فالثروة وسيلة لحاجة ما و الثروة سلاح ذوي حدين إما أن تأتي بالخير على قلب الإنسان أو تأتي بالشر على قلب الإنسان .
وعندما ندقق في الآيات القرآنية نرى أنّ القرآن الكريم يومئ إلى ظاهرة جمع المال من خلال التنديد به و التحذير منه ، ولفت النظر إلى متاعه العابر، فيقول عزّ وجلّ في أكثر من آية قرآنية (( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ )) ، (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) ، (( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا )) .
ولكن هذه النظرة ليست نظرة مطلقة واحدة ، فالشرع الإسلامي إنما ذمّ حالة الثراء ، الذي يكون في صورة تكنيز الأموال و عبادة المال كما في قوله تعالى (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) .
فالقرآن الكريم يصور إستخدام للمال قيمة أساسية إذا وظّف بصورة سليمة في الإنفاق و الزكاة الذي يعود على نفس الإنسان و روحه و قلبه بالطهارة و التزكية و ذلك في قوله عز و جل (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ))
لكن إذا أسيء إستغلال جمع المال فإن نتائجه تنعكس على شخص الإنسان و قد حذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله ( كثرة المال تفسد القلوب وتنسي الذنوب ) .
ونحن نرى هذا بالواقع أنّ طبيعة أصحاب الثروات مثل الملوك على مر الدهر منذ بني الفراعنة مرورا ً ببني أمية و بني عباس مرورا لعصرنا نجد ان الملوك هم آخر فئة يفكرون بشعوبهم ، و قد حذر النبي صلى الله عليه و آله من مجالستهم .
حيث يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله : " إياكم ومجالسة الموتى ".
قيل: " يا رسول الله ومن الموتى؟ "
قال صلّى الله عليه وآله : " الأغنياء " .
أي أغلب الأغنياء ملكوا الكنوز ومتاع الدنيا بإتباعهم طرق الفساد من كذب و نفاق واحتكار و غش وربح فاحش وبيع للقيم، وتضييع حقوق الناس أو بميلهم إلى أسباب الضلال ، فتتحول قلوبهم الى قلوب مظلمة قد أقفرت من روح الإيمان، وغشيتها ظلمة الشهوات.
رابعا ً : كثرة الذنـوب :
فإن كثرة الذنوب و المعاصي من أهم و أبرز الأسباب التي تعمل على قسوة القلب ، فالمجرم لا يرتكب جريمته إلا لأن قلبه قاسي ، ففي هذا السبب أمثلة لا حصر لها و أحاديث كبيرة نوجزها بحديثين .
يقول رسول الله الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم مخاطبا ً الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري ( يا أبا ذر إن القلب القاسي بعيد عن الله و لكن لا تشعرون ) .
و يقول أمير المؤمنين عليه السلام ( ما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب ) .
يتبع جزء ثالث
تحياتي
ghazooi