كميل الفضلي
09-06-2007, 09:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا ان هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة امره والقوّام بقسطه ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والائمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.
كانت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم امس وكانت رزية حقاً اذا انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الامة بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الامام والخليفة من بعده واعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين لذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لاهل بيته: (انتم المستضعفون بعدي) واوصى امته بهم خيراً ولو كان يعلم ان الامر يؤول اليهم لما احتاج الى الوصية بهم وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يعبر فيه عن المه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (ان حق الرجل يثبت بشاهدين وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)، ولا أريد ان أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين فلهذه المناقشة محل آخر لكنني اعتقد ان أحد هذه الاسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع فقد فهموه على انه نزاع بين شخصين هما علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن نازعه الامر فهم لا ينكرون فضل علي (عليه السلام) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجاعته وفنائه في الله لكنهم يرون ان المقابل ايضاً من السابقين إلى الاسلام وثاني اثنين اذ هما في الغار وصهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدري واحدي بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بامير المؤمنين أو يقتربوا منه (عليه السلام) وازاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق ان ينشق المسلمون الى طائفتين عظيمتين ولا جدوى في البحث فيها فقد اكل عليها الدهر وشرب.
ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق لان الخلاف ليس بين شخصين وانما بين مبدأين وخطين كان علي (عليه السلام) رمز الاول ومنافسه رمز الثاني:
الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والارض العالم بخفيات الامور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون واختاره للامة لتصل الى كمالها المنشود وبلّغه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير يقف في اول الخط علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الائمة الطاهرون الذين اطبقت الامة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الالهية ومن بعدهم العلماء العارفون الاتقياء الصالحون حتى يرث الله الارض ومن عليها.
الثاني: خط يصنعه البشر باهوائهم واساليبهم الشيطانية من قهر واذلال أو اغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة وكان الآخر راس هذا الخط فقد اختارته قريش -كما يقول الخليفة الثاني- وليس الله الذي اختاره ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولتزكوا وانما لاتأمّر عليكم، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي احرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الاخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الاعراض ونشروا الفساد وضلّوا واضلّوا (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) وعندما تعرض المقارنة بهذا الشكل ولو استوعبها الصحابة والاجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الايمان بصحة الخط الاول على انهم غير معذورين من اول الامر لان القرآن صريح (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) وقال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر ان يسلموا مقابل ان يجعل لهم الامر من بعده فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس الامر لي وانما هو بيد الله يختار له من يشاء).
ومحل الشاهد اني اعتقد ان طرح الموضوع بهذا الشكل يكون اجدى واوضح ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً وهو ماذا خسرت الامة بتضييعها وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده ؟ وماذا ترتب على هذا الاهمال من نتائج سلبية ؟ وحينما اتناول هذا البحث فاني لا اريد فقط ان اناقشها كقضية تاريخية وان كانت من الاهمية بمكان لابتناء اصل من اصول الدين وهو اصل الامامة عليها ولكن الذي اريده هي الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة لان الامامة بالحمل الاولي وان كانت مختصة بالاسماء المعينة الا انها بالحمل الشايع اعني النيابة العامة عن الامام وولاية امر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة مستمرة الى ان يرث الارض ومن عليها الامام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فاذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها باذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الامة امرها الى من لا يستحق فيكون من الضروري الالتفات اليها فنعود الى اصل السؤال وهو ماذا خسرت الامة عندما ولت امرها غير صاحب الحق الشرعي وماذا ترتب على ذلك من نتائج سلبية:
النتيجة الأولى: تصدي اناس غير مؤهلين لامامة الامة فمن المعلوم ان اية رسالة واية ايديولوجية -بتعبير اليوم- لا بد ان يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وافكاره وعلاقاته ولم يكن القوم كذلك وانما هم اناس عاديون كبقية افراد المجتمع ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسدها في حياته خيراً منهم وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ويتمردون على اوامره حتى آخر حياته بتخلفهم عن جيش اسامة وعدم تلبية امره (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس. وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم حيث قضوا اكثر عمرهم فيها وقد كشف عن عدم اهليتهم جهلهم وتخبّطهم في الامور ويصف امير المؤمنين امرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية (فواعجباً !! بينما هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته -لشدَّ ما تشطر ضرعيها- فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمهـــا -أي تجرح جرحاً عظيماً- ويخشُنُ مسُّها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خَرَم وان اسلس لها تقحَّم، فمني الناس لعمر الله بخَبَطٍ وشماس -وهو اباء الفرس عن ركوب ظهره- وتلون واعتراض -أي سير غير مستقيم). حتى قال الثاني (كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال) بعد ان نهى عن زيادة المهر عن حد معين فاجابته امرأة: اما سمعت قوله تعالى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تكرر في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كالصلاة على الجنائز ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الهانا الصفق بالاسواق، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته فيقول له احدهم وجهاً لوجه: (انت الذي تزعم انك رسول الله) أو يقولون عنه (ان الرجل ليهجر).
في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع ذاك هو علي بن ابي طالب (عليه السلام) فاستمع اليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة (ولقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفني الى فراشه ويمسّني جسده ويشمُّني عَرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلةً في فعل) الى ان قال (عليه السلام) (ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة، وقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير) وفي نهاية خطبة مماثلة اخرى يسأل (عليه السلام) مستنكراً: (فمن ذا احق به مني حياً وميتاً).
هكذا كان يتم تهيئة الامامة البديلة اما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك لذا فقد افرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:
1- تشوّه صورة الاسلام نفسه لان كثير من الامم والشعوب دخلت الاسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي لم تأخذه من مصدره وانما نقل لها عبر كلام وسلوك اصحابه ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الاسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة امامهم فَتَبنّوها على انها الاسلام الحقيقي وتزايد هذا البعد عن الاسلام بمرور الزمن حتى صرت ترى اقواماً لا تفقه من الاسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.
2- تجرّي اعداء الاسلام خصوصاً اليهود عليه وما كانوا يستطيعون ان يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم وجود ثغرة يمكن ان يدخلوا منها اما وقد تصدى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع ويمكن التغلب عليهم واحراجهم فمن السهولة اذن هز ثقة المسلمين بدينهم بتكرر الفشل من قادتهم وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة التي احرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالاحباط وكادوا يرتدون لولا وجود امير المؤمنين (عليه السلام) بالمرصاد الذي كان يجيبهم على كل اسئلتهم ويرد كيدهم الى نحورهم.
3- انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى بعد ان اصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة وانما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف حتى اصبح مستساغاً ان يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين
النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص أي الحكم والتشريع بالاراء الشخصية خلافاً للنص الالهي الحكيم وهو يعني ان الانسان ينصب نفسه مشرعاً والهاً يطاع في مقابل الوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى رفضاً قاطعاً وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً الى الشريعة المقدسة جاهلية فقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وفي آية اخرى الظَّالِمُونَ وفي ثالثة الْفَاسِقُونَ) وكان من شروط الايمان الكامل: التسليم والاذعان لحكم الله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة اسباب:
.
1- جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على احكام الشريعة فراحوا يستنبطون من انفسهم ما يسد نقصهم.
2- لاجل المحافظة على الاغراض والمصالح التي ارادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه وتبرير الافعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.
3- تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.
وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التي كانت مصدر خير للامة وعلى رأسها الزواج المؤقت الذي قال عنه امير المؤمنين (عليه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي) وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات فمثل مالك بن نويرة الذي شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة يُقتل ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأول خالد فأخطأ. ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل وصفين وكله اجتهاد يؤجرون عليه وان أخطأوا فلهم اجر واحد.
وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق ووضعوا له اصول وقوانيين وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.
النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها فقد شاءت الإرادة الالهية ان ينقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية التعبة إلى سمو التوحيد وطهارة الايمان وسعادة الدارين وقد قدر لهذه المسيرة ان تتكامل لتنشأ امة متكاملة على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة المعصومين من آله لكن ابعاد الائمة (عليهم السلام) عن موقع قيادة المجتمع ادى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:
1- ان من العناصر المهمة في التربية هو القدوة والاسوة الحسنة على تعبير القرآن لانه يمثل التطبيق للافكار التربوية فاذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر ويبقى مجرد حبر على ورق والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الاسلامي بل انه على مرور الايام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الاسلام فكيف نتوقع منه ان يربي الامة ويقودها نحو التكامل ففي حين يبقى في اخلاق الاسلام (لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم الذي يسمونهم الموالي ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية وبينما يقرأ في القرآن (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يجد الخلافة تتبع اهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد الخليفة يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محاربهم.
2- فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الامة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وقد بدأت هذه النفوس الامارة بالسوء تظهر في ايام الخلافة الاولى في وقت مبكر وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم واصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره بحيث ان عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في امر تعيين الخليفة من بين الستة اهل الشورى يشترط على علي (عليه السلام) ان يبايعه بشرط ان يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين، فما هي سيرة الشيخين التي يضمها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ انها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الاولى بحيث ان عبد الرحمن هذا وامثاله تركوا من الذهب ما يُكسر بالفؤوس –حسب ما ينقل التاريخ- ولم يكن امير المؤمنين (عليه السلام) ليوافق على هذا الشرط فيكون منه امضاءاً واعترافاً بهذه السيرة لان هذه السيرة ان كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها وان كانت مخالفة فارم بها عرض الجدار، فما الوجه لضمها إلى اصلي التشريع.
3- الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للامة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعين بما في ايديهم فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يطلع على مواقف علي (عليه السلام) مباشرة ان يوالي علياً ويتبعه وهو يسمع صحابياً يروي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان الاية الشريفة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الد الخصام واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) نزلت في علي بن ابي طالب.
فلا نتوقع من اغلب المسلمين في الارض الا ان يحملوا هذه الصورة المشوهة للاسلام لانهم لم يسمعوا غيرها ولم يشاهدوا غيرها فكان طبيعياً ان يعتقدوا جازمين ان هذا هو الاسلام.
ومن هنا اقتضت الحكمة الالهية ان تغيب الامام الثاني عشر (عليه السلام) هذه المدة الطويلة إلى ان يأذن الله تعالى له بالظهور كل ذلك لتستمر تربية الامة مدة اطول ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات اكثر حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الامام المهدي (عليه السلام) بينما لو قدر لهذه الامة ان تتربى في احضان الائمة المعصومين (عليهم السلام) لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التاريخ بكثير.
النتيجة الرابعة: تمزق الامة وتشتتها وتفرقها شيعاً واحزاب (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الامامة الحقيقية لان سر تشريع الامامة هو تحصين الامة من التمزق والانحراف كما قالت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة ابيها (صلى الله عليه وآله وسلم): (وجعل امامتنا نظاماً للملة) أي تنتظم بها امورهم وتستقر وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وحبل الله الممدود من السماء إلى الارض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)-كما بينت في شكوى القرآن- مضافاً إلى ان هذا الموقع بعد ان خرج عن مستقره وابعد عنه اهله اصبح مطمعاً لكل حالم به وشهوة التسلط اقوى الشهوات وفيها استجابة للانانية واستكبار النفس فمن الطبيعي ايضاً ان تكثر الصراعات حول هذا المنصب وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والاخلاق وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتاريخ لنقرأ بكل اسف والم يفتت القلوب الماسي التي جرها التنازع على السلطان والخسائر الفادحة في الانفس والاعراض والاموال التي هدرت في هذا الصراع فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في امة الاسلام وخير معبر عن هذه الالام وهذه الخسائر احد الادعية الواردة في لعن اعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبراءة منهم إلى ان يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه وحق اخفوه ومنبر علوه ومؤمن ارجوه ومنافق ولّوه وولي آذوه وطريد آووه وصادق طردوه وكافر نصروه وامام قهروه وفرض غيروه واثر انكروه وشر آثروه ودم اراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وارث غصبوه وفيئ اقتطعوه وسحت اكلوه وخمس استحلوه وباطل اسسوه وجور بسطوه ونفاق اسروه وغدر اضمروه وظلم نشروه ووعد اخلفوه وامان خانوه وعهد نقضوه وحلال حرموه وحرام احلوه وبطن فتقوه وجنين اسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز اذلوه وذليل اعزوه وحق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها ورسوم منعوها واحكام عطلوها وبيعة نكثوها ودعوة ابطلوها وبينةٍ انكروها وحيلة احدثوها وخيانة اوردوها وعقبة ارتقوها وشهادات كتموها ووصية صنعوها).
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا ان هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة امره والقوّام بقسطه ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والائمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.
كانت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم امس وكانت رزية حقاً اذا انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الامة بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الامام والخليفة من بعده واعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين لذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لاهل بيته: (انتم المستضعفون بعدي) واوصى امته بهم خيراً ولو كان يعلم ان الامر يؤول اليهم لما احتاج الى الوصية بهم وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يعبر فيه عن المه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (ان حق الرجل يثبت بشاهدين وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)، ولا أريد ان أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين فلهذه المناقشة محل آخر لكنني اعتقد ان أحد هذه الاسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع فقد فهموه على انه نزاع بين شخصين هما علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن نازعه الامر فهم لا ينكرون فضل علي (عليه السلام) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجاعته وفنائه في الله لكنهم يرون ان المقابل ايضاً من السابقين إلى الاسلام وثاني اثنين اذ هما في الغار وصهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدري واحدي بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بامير المؤمنين أو يقتربوا منه (عليه السلام) وازاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق ان ينشق المسلمون الى طائفتين عظيمتين ولا جدوى في البحث فيها فقد اكل عليها الدهر وشرب.
ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق لان الخلاف ليس بين شخصين وانما بين مبدأين وخطين كان علي (عليه السلام) رمز الاول ومنافسه رمز الثاني:
الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والارض العالم بخفيات الامور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون واختاره للامة لتصل الى كمالها المنشود وبلّغه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير يقف في اول الخط علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الائمة الطاهرون الذين اطبقت الامة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الالهية ومن بعدهم العلماء العارفون الاتقياء الصالحون حتى يرث الله الارض ومن عليها.
الثاني: خط يصنعه البشر باهوائهم واساليبهم الشيطانية من قهر واذلال أو اغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة وكان الآخر راس هذا الخط فقد اختارته قريش -كما يقول الخليفة الثاني- وليس الله الذي اختاره ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولتزكوا وانما لاتأمّر عليكم، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي احرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الاخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الاعراض ونشروا الفساد وضلّوا واضلّوا (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) وعندما تعرض المقارنة بهذا الشكل ولو استوعبها الصحابة والاجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الايمان بصحة الخط الاول على انهم غير معذورين من اول الامر لان القرآن صريح (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) وقال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر ان يسلموا مقابل ان يجعل لهم الامر من بعده فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس الامر لي وانما هو بيد الله يختار له من يشاء).
ومحل الشاهد اني اعتقد ان طرح الموضوع بهذا الشكل يكون اجدى واوضح ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً وهو ماذا خسرت الامة بتضييعها وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده ؟ وماذا ترتب على هذا الاهمال من نتائج سلبية ؟ وحينما اتناول هذا البحث فاني لا اريد فقط ان اناقشها كقضية تاريخية وان كانت من الاهمية بمكان لابتناء اصل من اصول الدين وهو اصل الامامة عليها ولكن الذي اريده هي الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة لان الامامة بالحمل الاولي وان كانت مختصة بالاسماء المعينة الا انها بالحمل الشايع اعني النيابة العامة عن الامام وولاية امر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة مستمرة الى ان يرث الارض ومن عليها الامام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فاذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها باذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الامة امرها الى من لا يستحق فيكون من الضروري الالتفات اليها فنعود الى اصل السؤال وهو ماذا خسرت الامة عندما ولت امرها غير صاحب الحق الشرعي وماذا ترتب على ذلك من نتائج سلبية:
النتيجة الأولى: تصدي اناس غير مؤهلين لامامة الامة فمن المعلوم ان اية رسالة واية ايديولوجية -بتعبير اليوم- لا بد ان يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وافكاره وعلاقاته ولم يكن القوم كذلك وانما هم اناس عاديون كبقية افراد المجتمع ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسدها في حياته خيراً منهم وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ويتمردون على اوامره حتى آخر حياته بتخلفهم عن جيش اسامة وعدم تلبية امره (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس. وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم حيث قضوا اكثر عمرهم فيها وقد كشف عن عدم اهليتهم جهلهم وتخبّطهم في الامور ويصف امير المؤمنين امرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية (فواعجباً !! بينما هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته -لشدَّ ما تشطر ضرعيها- فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمهـــا -أي تجرح جرحاً عظيماً- ويخشُنُ مسُّها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خَرَم وان اسلس لها تقحَّم، فمني الناس لعمر الله بخَبَطٍ وشماس -وهو اباء الفرس عن ركوب ظهره- وتلون واعتراض -أي سير غير مستقيم). حتى قال الثاني (كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال) بعد ان نهى عن زيادة المهر عن حد معين فاجابته امرأة: اما سمعت قوله تعالى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تكرر في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كالصلاة على الجنائز ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الهانا الصفق بالاسواق، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته فيقول له احدهم وجهاً لوجه: (انت الذي تزعم انك رسول الله) أو يقولون عنه (ان الرجل ليهجر).
في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع ذاك هو علي بن ابي طالب (عليه السلام) فاستمع اليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة (ولقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفني الى فراشه ويمسّني جسده ويشمُّني عَرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلةً في فعل) الى ان قال (عليه السلام) (ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة، وقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير) وفي نهاية خطبة مماثلة اخرى يسأل (عليه السلام) مستنكراً: (فمن ذا احق به مني حياً وميتاً).
هكذا كان يتم تهيئة الامامة البديلة اما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك لذا فقد افرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:
1- تشوّه صورة الاسلام نفسه لان كثير من الامم والشعوب دخلت الاسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي لم تأخذه من مصدره وانما نقل لها عبر كلام وسلوك اصحابه ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الاسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة امامهم فَتَبنّوها على انها الاسلام الحقيقي وتزايد هذا البعد عن الاسلام بمرور الزمن حتى صرت ترى اقواماً لا تفقه من الاسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.
2- تجرّي اعداء الاسلام خصوصاً اليهود عليه وما كانوا يستطيعون ان يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم وجود ثغرة يمكن ان يدخلوا منها اما وقد تصدى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع ويمكن التغلب عليهم واحراجهم فمن السهولة اذن هز ثقة المسلمين بدينهم بتكرر الفشل من قادتهم وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة التي احرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالاحباط وكادوا يرتدون لولا وجود امير المؤمنين (عليه السلام) بالمرصاد الذي كان يجيبهم على كل اسئلتهم ويرد كيدهم الى نحورهم.
3- انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى بعد ان اصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة وانما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف حتى اصبح مستساغاً ان يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين
النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص أي الحكم والتشريع بالاراء الشخصية خلافاً للنص الالهي الحكيم وهو يعني ان الانسان ينصب نفسه مشرعاً والهاً يطاع في مقابل الوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى رفضاً قاطعاً وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً الى الشريعة المقدسة جاهلية فقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وفي آية اخرى الظَّالِمُونَ وفي ثالثة الْفَاسِقُونَ) وكان من شروط الايمان الكامل: التسليم والاذعان لحكم الله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة اسباب:
.
1- جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على احكام الشريعة فراحوا يستنبطون من انفسهم ما يسد نقصهم.
2- لاجل المحافظة على الاغراض والمصالح التي ارادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه وتبرير الافعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.
3- تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.
وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التي كانت مصدر خير للامة وعلى رأسها الزواج المؤقت الذي قال عنه امير المؤمنين (عليه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي) وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات فمثل مالك بن نويرة الذي شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة يُقتل ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأول خالد فأخطأ. ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل وصفين وكله اجتهاد يؤجرون عليه وان أخطأوا فلهم اجر واحد.
وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق ووضعوا له اصول وقوانيين وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.
النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها فقد شاءت الإرادة الالهية ان ينقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية التعبة إلى سمو التوحيد وطهارة الايمان وسعادة الدارين وقد قدر لهذه المسيرة ان تتكامل لتنشأ امة متكاملة على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة المعصومين من آله لكن ابعاد الائمة (عليهم السلام) عن موقع قيادة المجتمع ادى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:
1- ان من العناصر المهمة في التربية هو القدوة والاسوة الحسنة على تعبير القرآن لانه يمثل التطبيق للافكار التربوية فاذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر ويبقى مجرد حبر على ورق والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الاسلامي بل انه على مرور الايام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الاسلام فكيف نتوقع منه ان يربي الامة ويقودها نحو التكامل ففي حين يبقى في اخلاق الاسلام (لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم الذي يسمونهم الموالي ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية وبينما يقرأ في القرآن (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يجد الخلافة تتبع اهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد الخليفة يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محاربهم.
2- فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الامة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وقد بدأت هذه النفوس الامارة بالسوء تظهر في ايام الخلافة الاولى في وقت مبكر وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم واصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره بحيث ان عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في امر تعيين الخليفة من بين الستة اهل الشورى يشترط على علي (عليه السلام) ان يبايعه بشرط ان يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين، فما هي سيرة الشيخين التي يضمها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ انها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الاولى بحيث ان عبد الرحمن هذا وامثاله تركوا من الذهب ما يُكسر بالفؤوس –حسب ما ينقل التاريخ- ولم يكن امير المؤمنين (عليه السلام) ليوافق على هذا الشرط فيكون منه امضاءاً واعترافاً بهذه السيرة لان هذه السيرة ان كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها وان كانت مخالفة فارم بها عرض الجدار، فما الوجه لضمها إلى اصلي التشريع.
3- الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للامة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعين بما في ايديهم فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يطلع على مواقف علي (عليه السلام) مباشرة ان يوالي علياً ويتبعه وهو يسمع صحابياً يروي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان الاية الشريفة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الد الخصام واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) نزلت في علي بن ابي طالب.
فلا نتوقع من اغلب المسلمين في الارض الا ان يحملوا هذه الصورة المشوهة للاسلام لانهم لم يسمعوا غيرها ولم يشاهدوا غيرها فكان طبيعياً ان يعتقدوا جازمين ان هذا هو الاسلام.
ومن هنا اقتضت الحكمة الالهية ان تغيب الامام الثاني عشر (عليه السلام) هذه المدة الطويلة إلى ان يأذن الله تعالى له بالظهور كل ذلك لتستمر تربية الامة مدة اطول ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات اكثر حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الامام المهدي (عليه السلام) بينما لو قدر لهذه الامة ان تتربى في احضان الائمة المعصومين (عليهم السلام) لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التاريخ بكثير.
النتيجة الرابعة: تمزق الامة وتشتتها وتفرقها شيعاً واحزاب (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الامامة الحقيقية لان سر تشريع الامامة هو تحصين الامة من التمزق والانحراف كما قالت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة ابيها (صلى الله عليه وآله وسلم): (وجعل امامتنا نظاماً للملة) أي تنتظم بها امورهم وتستقر وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وحبل الله الممدود من السماء إلى الارض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)-كما بينت في شكوى القرآن- مضافاً إلى ان هذا الموقع بعد ان خرج عن مستقره وابعد عنه اهله اصبح مطمعاً لكل حالم به وشهوة التسلط اقوى الشهوات وفيها استجابة للانانية واستكبار النفس فمن الطبيعي ايضاً ان تكثر الصراعات حول هذا المنصب وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والاخلاق وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتاريخ لنقرأ بكل اسف والم يفتت القلوب الماسي التي جرها التنازع على السلطان والخسائر الفادحة في الانفس والاعراض والاموال التي هدرت في هذا الصراع فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في امة الاسلام وخير معبر عن هذه الالام وهذه الخسائر احد الادعية الواردة في لعن اعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبراءة منهم إلى ان يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه وحق اخفوه ومنبر علوه ومؤمن ارجوه ومنافق ولّوه وولي آذوه وطريد آووه وصادق طردوه وكافر نصروه وامام قهروه وفرض غيروه واثر انكروه وشر آثروه ودم اراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وارث غصبوه وفيئ اقتطعوه وسحت اكلوه وخمس استحلوه وباطل اسسوه وجور بسطوه ونفاق اسروه وغدر اضمروه وظلم نشروه ووعد اخلفوه وامان خانوه وعهد نقضوه وحلال حرموه وحرام احلوه وبطن فتقوه وجنين اسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز اذلوه وذليل اعزوه وحق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها ورسوم منعوها واحكام عطلوها وبيعة نكثوها ودعوة ابطلوها وبينةٍ انكروها وحيلة احدثوها وخيانة اوردوها وعقبة ارتقوها وشهادات كتموها ووصية صنعوها).