المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الانسان والامانة العظمى



قطيفيss
08-23-2004, 01:08 PM
الإنسان والامانة العظمى

ابن آدم هو الكائن المتميز -فيما نعلم- بين سائر الكائنات الحيّة بالإرادة والحرية المطلقة، وهذه الإرادة تحمّله مسؤولية الامانة التي تقبّلها يوم خُلق؛ واشفقت سائر المخلوقات عن حملها وتقبلها.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ فَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما ( الفتح/28-29)

ابن آدم هو الكائن المتميز -فيما نعلم- بين سائر الكائنات الحيّة بالإرادة والحرية المطلقة، وهذه الإرادة تحمّله مسؤولية الامانة التي تقبّلها يوم خُلق؛ واشفقت سائر المخلوقات عن حملها وتقبلها.
فلقد اشفقت السماوات والارض والجبال من تحمل المسؤولية، ولكن الانسان -هذا الكائن الظلوم الجهول- حمل الامانة بكل وعي واختيار، فأصبح في موقع حرج وحساس.
وفي وقت كان لكل موجود مخلوق مسيرة معينة وقدر مرسوم، رسمه الله تبارك وتعالى له؛ لا يمكنه تجاوزه، كان ابن آدم حرّاً مختاراً في كل شيء، فالشمس مثلاً، هذا المخلوق العملاق الذي لو ألقيت فيه كرتنا الارضية لما كانت أكبر من حلقة صغيرة ترمى في صحراء واسعة، هذه الشمس مقدّر لها السير ضمن خطة معينة لا تتجاوزها بمقدار بوصة واحدة، ولا تتأخر عنها ولا تتقدم، وقد ورد في الاحاديث والروايات الكريمة ان الله جلّت عظمته قد خلق الشمس ووكّل بها آلافاً من الملائكة -لعلّ المراد من ذلك القوانين الكونية- يجرّونها ويسحبونها... كدلالة على ان الشمس عاجزة عن الانتخاب والحرية والاختيار، فالشمس لا يسعها الامتناع عن الشروق أو الغروب... ومثل الشمس عشرات الملايين من الكواكب والنجوم والمجرّات السابحة في الكون الذي لا يسعنا تخيل آفاقه، وأشير هنا الى ان مرصد (هابل) استطاع قبل أيام قلائل التقاط إشارات نورية من مجرة تبعد عن الارض حوالي (12) مليار سنة ضوئية، بمعنى ان النور قد انطلق من هذه المجرة قبل (12) مليار سنة نورية ولم يصل إلينا إلا قبل سويعات... ولعل وراء هذه المجرّة مجرّات لا تعدّ ولا تحصى، وهي كلها خاضعة لقدر الله وقضائه الذي لا محيص عنه، فالله قهر عباده وقهر كل شيء.
ولكن ابن آدم الوحيد من بين المخلوقات أراد الحرية وأراد الإرادة... وأراد ان يكون مخلوقاً متفوقاً، وهذه هي القضية الكبرى والطامّة العظمى.
والإنسان كإنسان بعيداً عن لونه أو حجمه او تأريخه، حمل الأمانة فكان ظلوماً جهولاً، وابتلى بها.
امتحنه الله سبحانه وتعالى، ففشل في الامتحان الاول، امتحان أبينا الأول آدم عليه السلام حينما منعه ربنا عن أن يقرب احدى أشجار الجنّة، وأتاح له الفرصة الكبرى في انتخاب مالذّ وطاب من ثمار الجنة الواسعة والعريضة، ولكنه اقترب منها وتناول ثمرتها بدسيسة الشيطان الرجيم وغروره، انه لم يأكل منها حتى الشبع، ولا بقي في الجنة دهراً مع زوجته حوّاء... بل لعلّهما تناولا شيئاً منها، او انهما لم يدوما في الجنة ساعات معدودة، فأخذت ثياب الجنة بالسقوط عنهما مما اضطرا الى البحث بين اوراق الشجر الاخرى ما يسترا به سوآتهما وعيوبهما ككائن غير سماوي.
ومن هنا؛ لابد من التأكد ان تحمل الامانة امتحان ذو شقّين، فالناجح في أدائه يرقى الى اعلى عليين، والفاشل فيه يسقط حيث اسفل السافلين، ولك ان تتصور بأن الفاصلة بين الطرفين اعظم بكثير جداً من الفاصلة بيننا وبين تلك المجرّة الهائلة البعد التي تحدثت لك عنها آنفاً، فالبعد هنا لا يمكن قياسه بالأمتار او الأميال أو السنين الضوئية، فالمرء يعجز كل العجز عن تصور المسافة بين من قتل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وهو اشقى الاشقياء وبين من يصاحب النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قصره في الجنّة... نعم؛ إنه ليس من المستغرب ان يكون في الجنة من يصحب النبي في درجته، فهو نفسه قد اوصى المسلمين والمؤمنين بتطبيق جملة من الاعمال وأحدها صلاة الغفيلة وصلاة الوصية اللتين تُصلّيان بعد صلاة المغرب، وهو نفسه قد قال: "من صلى هذه الصلاة في كل ليلة زاحمني في الجنة" أي كان رفيقي وجليسي في الجنّة... فهذا يكون رفيقه، وذاك كان من عبيد الدنيا فهلك وكان في الدرك الاسفل من النار، العياذ بالله.
وهذه هي المسؤولية الكبرى، انها عظم من ان نقيسها بقياس او نحصيها بإحصاء، ولعل علوم ومفاهيم وانوار القرآن الكريم جميعاً تتلخص في كونها بحوثاً تهدي الانسان الى انه كائن مسؤول، والى كيفية تحمل واداء هذه المسؤولية.
إن الانسان الذي يجهل كونه مسؤولاً وأميناً، فهذا الانسان لا قيمة له البتة، بل انه يخرج عن نطاق تعريف الانسانية، فتراه يهبط الى مستوى الحيوانات الاخرى واضل سبيلاً.
وكم هو مقيت ان تسأل عدداً من الناس عن الطريق الصحيح لكي تصل الى عنوان ما، فيجيبوك بانهم لا يعلمون، ولكن احدهم يأخذ بيدك ليرشدك، فإذا به يحرفك عن الطريق الصحيح، فأنت هنا لا تملك غير معاتبته، ولو كان بالوسع لعاقبته على جرأته على شخصك وجرأته على ادعائه الباطل بالعلم وهو جاهل...
وهكذا ابن آدم؛ فأنه تقبّل بإرادة حرّة تحمل الامانة والمسؤولية فلابد له من الاستمرار في الامتحان والانتهاء بنجاح...

ما هي اهم المسؤوليات؟!
المسؤولية الاولى الملقاة على عاتق الانسان هي كونه مسؤولاً عن نفسه اولاً، وقد قال سبحانه وتعالى: { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ} فالمسؤولية الاولى ان يقي المرء نفسه من نيران جهنم المستعرة، فهو إذاً محاسب يوم القيامة على تهاونه تجاه هذه القضية. وقد قال الامام الحسن المجتبى عليه الصلاة والسلام وهو في غمرات الموت: " ياابن آدم ! نفسك نفسك فان هي هلكت لا ينفعك نجاة غيرها" فالاهل والاصدقاء والجيران إذا دخلوا جهنم لن يدخل معهم بذنوبهم، ولن ينفعوه ابداً إذا ما حكم عليه يوم القيامة بدخول النار.
ولعلّي اعرف الكثير ممن فنى أو يفني حياته من اجل اولاده وزوجته، من حين ان هؤلاء الاولاد وهذه الزوجة لا يعيرون أي اهتمام به، واتذكّر جيداً قصة ذلك الثري الملياردير في ايران الذي ذهبت عائلته الى قضاء العطلة السنوية في المدن الشمالية، في حين اضطّر هو الى دخول احدى المستشفيات للمعالجة من مرض عضال، ولكن الاجل المحتوم لم يمهله حتى قضى نحبه في غرفة الانعاش وحيداً دون من يعنى بأمره من اهله وذويه، ولمّا اخبر كبيرهم بنبأ الوفاة، قال لمن نقل اليه الخبر: ارجو ان لا تخبر احداً من العائلة حتى تنقضي أيام الاصطياف ونهنأ بها، وبعد اكثر من اسبوع عادوا ليخرجوا جثمان ابيهم من المجمدة ليدفنوه.
ان يكون المرء مسؤولاً عن انقاذ نفسه بالدرجة الاولى يعني ان يحذو حذو أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حيث كان هذا العملاق متنمّراً في ذات الله، فما دامت القضية مرتبطة بالدين فلا أحساب ولا أنساب، ومما ينقل عنه في هذا المجال ان عدداً من الرجال من اقارب أمّ هانيء اخت امير المؤمنين طلبوا اليها ان تخفيهم عن عيون الجيش الفاتح لمكّة- وكان هؤلاء ممن اهدر رسول الله دماءهم، وهي إذ كانت تخفيهم دخل عليها فارس ملثم يطلب اليها تسليمهم، فأعرضت عنه مؤكدة له انها اخت علي بن ابي طالب، فقال لها الفارس: دعي عنك هذا، وكشف اللثام فإذا هو علي نفسه، وامرها بالسكوت وقال: اتجيريني على الله ورسوله؟ فوقفت أم هانئ بين هؤلاء وبين سيف أمير المؤمنين، فغضب الامام وغادر المكان الى حيث رسول الله، فتبعته لكي تشفع للمحتمين بها الى الرسول نفسه، ولمّا لم تعثر عليه، ذهبت الى فاطمة الزهراء سلام الله عليها فرأتها اشد غيرة على دين الله والمسلمين، ثم انتهت أم هانئ الى الرسول ، فتبسم قائلاً: " اجرنا من اجرتِ يا أم هانئ...".
إذن؛ فالمطلوب من الانسان عدم التمحور حول الشهوات والماديات التي بطبيعتها زائلة، وعدم نسيان او تناسي النعيم الابدي .
فان يرى المسلم اليوم الآخر نصب عينيه بصورة دائمة، فذلك أمر يدفع به الى تحمل مسؤوليته تجاه نفسه، كما يجنبه الكثير من المشاكل والوساوس.
ولعل اول امارات هذه القضية ان يكثر الانسان من ذكر الموت ما استطاع، وليأخذ في ذلك شيئاً من فضائل الرسول وأهل بيته - عليهم الصلاة والسلام- ففي سيرتهم ما يرقى به الى المعالي..
لقد أُتي الامام علي عليه السلام في احدى الليالي بخراج اصفهان، فقال لأصحابه: قسّموه. فتعلل البعض منهم بظلام الليل داعيه الى تأخير التقسيم الى صبيحة الغد. فقال لهم الامام: ومن يضمن منكم حياته الى غداة غد؟! فعجز الجميع عن الاجابة حتى اضطروا -بأمر الامام- الى القسمة، ثم لمّا انتهت كنس الامام مخزن بيت المال ورشه بالماء ثم صلى ركعتين يسأل ربه مزيد التوفيق.

مسؤولية إنقاذ الاقربين:
ولمّا كان الاولاد والأهل بمثابة الجزء من النفس، كان حرياً بالانسان السعي من اجل المحافظة عليهم والعمل على انقاذهم من براثن الجهل والفسق والعصيان، وحثهم على ان يكونوا او يكوّنوا النموذج الاروع للعائلة او العشيرة.
وهنا بالذات اقول لكم -ايها الاخوة والاخوات- مؤكداً ألاّ تعتمدوا خلال تربيتكم لأولادكم على معلمي المدرسة او برامج التلفزيون ولا الكتب ولا اصدقاء الشارع او الاندية الاجتماعية، بل اعتمدوا على الله سبحانه وعلى انفسكم انتم، فالقضية المسلّم بها هي ان الطبيعة الاجتماعية لبلداننا قد تغيرت نحو الاسوأ غاية التغيير، بفعل الكم الهائل من الثقافة الغربية المصدّرة لنا عن طريق رؤساء وزعماء حكوماتنا.

مسؤولية الحفاظ على المجتمع:
ينبغي الاقتناع التام بأن كل واحد منا -نحن المسلمين- مسؤول عن مجتمعه امام الله وامام التاريخ، فإذا رأينا فساداً ما في جانب من جوانب مجتمعنا، فما علينا الا بذل الجهود لتغييره نحو الصلاح، فإذا كان اولاد الجيران اولاداً سيئين التربية -مثلاً- فليس من الصحيح الاكتفاء بصلاح تربية اولادك، فهؤلاء من شأنهم التأثر بأولاد الجيران، ولذلك فإن اصلاح الغير يعني بصورة مباشرة اصلاح نفسك، بما في ذلك اصلاح اولادك.

مسؤولية الحفاظ على الاموال:
لعل من اهم مشاكلنا هي التخلف الاقتصادي، ومسؤولية الحفاظ على المال والنهوض بالمستوى الاقتصادي، من المسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتق الانسان، فالمال كما هو معروف عامل مساعد لتجنب العديد من الامراض الاجتماعية المهلكة...

الحفاظ على الدولة والامة:
ان يحافظ المرء على دولته ومجتمعه في مقابل الهجمات المعادية، يكون قد ادّى مهمة حساسة جداً، فهذا الغرب الذي يعمل على تقطيع اوصال امتنا المسلمة لابد من العمل على اجهاض مؤامراته بوعي ويقظة كاملتين، لكي نضمن التقدم ونكون ممن تحدثت عنهم الآيات التي بدأنا بها حديثنا هذا.
نسأل الله سبحانه ان يجعلنا ممن يتحمل مسؤولياته ويؤدي امانته وان نكون كما يريد لنا الله، وان يوفقنا لمزيد عبادته في هذا الشهر المبارك شهر رجب الحرام، انه ولي التوفيق. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قطيفيss
08-23-2004, 02:13 PM
الإنسان والامانة العظمى

ابن آدم هو الكائن المتميز -فيما نعلم- بين سائر الكائنات الحيّة بالإرادة والحرية المطلقة، وهذه الإرادة تحمّله مسؤولية الامانة التي تقبّلها يوم خُلق؛ واشفقت سائر المخلوقات عن حملها وتقبلها.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ فَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما ( الفتح/28-29)

ابن آدم هو الكائن المتميز -فيما نعلم- بين سائر الكائنات الحيّة بالإرادة والحرية المطلقة، وهذه الإرادة تحمّله مسؤولية الامانة التي تقبّلها يوم خُلق؛ واشفقت سائر المخلوقات عن حملها وتقبلها.
فلقد اشفقت السماوات والارض والجبال من تحمل المسؤولية، ولكن الانسان -هذا الكائن الظلوم الجهول- حمل الامانة بكل وعي واختيار، فأصبح في موقع حرج وحساس.
وفي وقت كان لكل موجود مخلوق مسيرة معينة وقدر مرسوم، رسمه الله تبارك وتعالى له؛ لا يمكنه تجاوزه، كان ابن آدم حرّاً مختاراً في كل شيء، فالشمس مثلاً، هذا المخلوق العملاق الذي لو ألقيت فيه كرتنا الارضية لما كانت أكبر من حلقة صغيرة ترمى في صحراء واسعة، هذه الشمس مقدّر لها السير ضمن خطة معينة لا تتجاوزها بمقدار بوصة واحدة، ولا تتأخر عنها ولا تتقدم، وقد ورد في الاحاديث والروايات الكريمة ان الله جلّت عظمته قد خلق الشمس ووكّل بها آلافاً من الملائكة -لعلّ المراد من ذلك القوانين الكونية- يجرّونها ويسحبونها... كدلالة على ان الشمس عاجزة عن الانتخاب والحرية والاختيار، فالشمس لا يسعها الامتناع عن الشروق أو الغروب... ومثل الشمس عشرات الملايين من الكواكب والنجوم والمجرّات السابحة في الكون الذي لا يسعنا تخيل آفاقه، وأشير هنا الى ان مرصد (هابل) استطاع قبل أيام قلائل التقاط إشارات نورية من مجرة تبعد عن الارض حوالي (12) مليار سنة ضوئية، بمعنى ان النور قد انطلق من هذه المجرة قبل (12) مليار سنة نورية ولم يصل إلينا إلا قبل سويعات... ولعل وراء هذه المجرّة مجرّات لا تعدّ ولا تحصى، وهي كلها خاضعة لقدر الله وقضائه الذي لا محيص عنه، فالله قهر عباده وقهر كل شيء.
ولكن ابن آدم الوحيد من بين المخلوقات أراد الحرية وأراد الإرادة... وأراد ان يكون مخلوقاً متفوقاً، وهذه هي القضية الكبرى والطامّة العظمى.
والإنسان كإنسان بعيداً عن لونه أو حجمه او تأريخه، حمل الأمانة فكان ظلوماً جهولاً، وابتلى بها.
امتحنه الله سبحانه وتعالى، ففشل في الامتحان الاول، امتحان أبينا الأول آدم عليه السلام حينما منعه ربنا عن أن يقرب احدى أشجار الجنّة، وأتاح له الفرصة الكبرى في انتخاب مالذّ وطاب من ثمار الجنة الواسعة والعريضة، ولكنه اقترب منها وتناول ثمرتها بدسيسة الشيطان الرجيم وغروره، انه لم يأكل منها حتى الشبع، ولا بقي في الجنة دهراً مع زوجته حوّاء... بل لعلّهما تناولا شيئاً منها، او انهما لم يدوما في الجنة ساعات معدودة، فأخذت ثياب الجنة بالسقوط عنهما مما اضطرا الى البحث بين اوراق الشجر الاخرى ما يسترا به سوآتهما وعيوبهما ككائن غير سماوي.
ومن هنا؛ لابد من التأكد ان تحمل الامانة امتحان ذو شقّين، فالناجح في أدائه يرقى الى اعلى عليين، والفاشل فيه يسقط حيث اسفل السافلين، ولك ان تتصور بأن الفاصلة بين الطرفين اعظم بكثير جداً من الفاصلة بيننا وبين تلك المجرّة الهائلة البعد التي تحدثت لك عنها آنفاً، فالبعد هنا لا يمكن قياسه بالأمتار او الأميال أو السنين الضوئية، فالمرء يعجز كل العجز عن تصور المسافة بين من قتل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وهو اشقى الاشقياء وبين من يصاحب النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قصره في الجنّة... نعم؛ إنه ليس من المستغرب ان يكون في الجنة من يصحب النبي في درجته، فهو نفسه قد اوصى المسلمين والمؤمنين بتطبيق جملة من الاعمال وأحدها صلاة الغفيلة وصلاة الوصية اللتين تُصلّيان بعد صلاة المغرب، وهو نفسه قد قال: "من صلى هذه الصلاة في كل ليلة زاحمني في الجنة" أي كان رفيقي وجليسي في الجنّة... فهذا يكون رفيقه، وذاك كان من عبيد الدنيا فهلك وكان في الدرك الاسفل من النار، العياذ بالله.
وهذه هي المسؤولية الكبرى، انها عظم من ان نقيسها بقياس او نحصيها بإحصاء، ولعل علوم ومفاهيم وانوار القرآن الكريم جميعاً تتلخص في كونها بحوثاً تهدي الانسان الى انه كائن مسؤول، والى كيفية تحمل واداء هذه المسؤولية.
إن الانسان الذي يجهل كونه مسؤولاً وأميناً، فهذا الانسان لا قيمة له البتة، بل انه يخرج عن نطاق تعريف الانسانية، فتراه يهبط الى مستوى الحيوانات الاخرى واضل سبيلاً.
وكم هو مقيت ان تسأل عدداً من الناس عن الطريق الصحيح لكي تصل الى عنوان ما، فيجيبوك بانهم لا يعلمون، ولكن احدهم يأخذ بيدك ليرشدك، فإذا به يحرفك عن الطريق الصحيح، فأنت هنا لا تملك غير معاتبته، ولو كان بالوسع لعاقبته على جرأته على شخصك وجرأته على ادعائه الباطل بالعلم وهو جاهل...
وهكذا ابن آدم؛ فأنه تقبّل بإرادة حرّة تحمل الامانة والمسؤولية فلابد له من الاستمرار في الامتحان والانتهاء بنجاح...

ما هي اهم المسؤوليات؟!
المسؤولية الاولى الملقاة على عاتق الانسان هي كونه مسؤولاً عن نفسه اولاً، وقد قال سبحانه وتعالى: { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ} فالمسؤولية الاولى ان يقي المرء نفسه من نيران جهنم المستعرة، فهو إذاً محاسب يوم القيامة على تهاونه تجاه هذه القضية. وقد قال الامام الحسن المجتبى عليه الصلاة والسلام وهو في غمرات الموت: " ياابن آدم ! نفسك نفسك فان هي هلكت لا ينفعك نجاة غيرها" فالاهل والاصدقاء والجيران إذا دخلوا جهنم لن يدخل معهم بذنوبهم، ولن ينفعوه ابداً إذا ما حكم عليه يوم القيامة بدخول النار.
ولعلّي اعرف الكثير ممن فنى أو يفني حياته من اجل اولاده وزوجته، من حين ان هؤلاء الاولاد وهذه الزوجة لا يعيرون أي اهتمام به، واتذكّر جيداً قصة ذلك الثري الملياردير في ايران الذي ذهبت عائلته الى قضاء العطلة السنوية في المدن الشمالية، في حين اضطّر هو الى دخول احدى المستشفيات للمعالجة من مرض عضال، ولكن الاجل المحتوم لم يمهله حتى قضى نحبه في غرفة الانعاش وحيداً دون من يعنى بأمره من اهله وذويه، ولمّا اخبر كبيرهم بنبأ الوفاة، قال لمن نقل اليه الخبر: ارجو ان لا تخبر احداً من العائلة حتى تنقضي أيام الاصطياف ونهنأ بها، وبعد اكثر من اسبوع عادوا ليخرجوا جثمان ابيهم من المجمدة ليدفنوه.
ان يكون المرء مسؤولاً عن انقاذ نفسه بالدرجة الاولى يعني ان يحذو حذو أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حيث كان هذا العملاق متنمّراً في ذات الله، فما دامت القضية مرتبطة بالدين فلا أحساب ولا أنساب، ومما ينقل عنه في هذا المجال ان عدداً من الرجال من اقارب أمّ هانيء اخت امير المؤمنين طلبوا اليها ان تخفيهم عن عيون الجيش الفاتح لمكّة- وكان هؤلاء ممن اهدر رسول الله دماءهم، وهي إذ كانت تخفيهم دخل عليها فارس ملثم يطلب اليها تسليمهم، فأعرضت عنه مؤكدة له انها اخت علي بن ابي طالب، فقال لها الفارس: دعي عنك هذا، وكشف اللثام فإذا هو علي نفسه، وامرها بالسكوت وقال: اتجيريني على الله ورسوله؟ فوقفت أم هانئ بين هؤلاء وبين سيف أمير المؤمنين، فغضب الامام وغادر المكان الى حيث رسول الله، فتبعته لكي تشفع للمحتمين بها الى الرسول نفسه، ولمّا لم تعثر عليه، ذهبت الى فاطمة الزهراء سلام الله عليها فرأتها اشد غيرة على دين الله والمسلمين، ثم انتهت أم هانئ الى الرسول ، فتبسم قائلاً: " اجرنا من اجرتِ يا أم هانئ...".
إذن؛ فالمطلوب من الانسان عدم التمحور حول الشهوات والماديات التي بطبيعتها زائلة، وعدم نسيان او تناسي النعيم الابدي .
فان يرى المسلم اليوم الآخر نصب عينيه بصورة دائمة، فذلك أمر يدفع به الى تحمل مسؤوليته تجاه نفسه، كما يجنبه الكثير من المشاكل والوساوس.
ولعل اول امارات هذه القضية ان يكثر الانسان من ذكر الموت ما استطاع، وليأخذ في ذلك شيئاً من فضائل الرسول وأهل بيته - عليهم الصلاة والسلام- ففي سيرتهم ما يرقى به الى المعالي..
لقد أُتي الامام علي عليه السلام في احدى الليالي بخراج اصفهان، فقال لأصحابه: قسّموه. فتعلل البعض منهم بظلام الليل داعيه الى تأخير التقسيم الى صبيحة الغد. فقال لهم الامام: ومن يضمن منكم حياته الى غداة غد؟! فعجز الجميع عن الاجابة حتى اضطروا -بأمر الامام- الى القسمة، ثم لمّا انتهت كنس الامام مخزن بيت المال ورشه بالماء ثم صلى ركعتين يسأل ربه مزيد التوفيق.

مسؤولية إنقاذ الاقربين:
ولمّا كان الاولاد والأهل بمثابة الجزء من النفس، كان حرياً بالانسان السعي من اجل المحافظة عليهم والعمل على انقاذهم من براثن الجهل والفسق والعصيان، وحثهم على ان يكونوا او يكوّنوا النموذج الاروع للعائلة او العشيرة.
وهنا بالذات اقول لكم -ايها الاخوة والاخوات- مؤكداً ألاّ تعتمدوا خلال تربيتكم لأولادكم على معلمي المدرسة او برامج التلفزيون ولا الكتب ولا اصدقاء الشارع او الاندية الاجتماعية، بل اعتمدوا على الله سبحانه وعلى انفسكم انتم، فالقضية المسلّم بها هي ان الطبيعة الاجتماعية لبلداننا قد تغيرت نحو الاسوأ غاية التغيير، بفعل الكم الهائل من الثقافة الغربية المصدّرة لنا عن طريق رؤساء وزعماء حكوماتنا.

مسؤولية الحفاظ على المجتمع:
ينبغي الاقتناع التام بأن كل واحد منا -نحن المسلمين- مسؤول عن مجتمعه امام الله وامام التاريخ، فإذا رأينا فساداً ما في جانب من جوانب مجتمعنا، فما علينا الا بذل الجهود لتغييره نحو الصلاح، فإذا كان اولاد الجيران اولاداً سيئين التربية -مثلاً- فليس من الصحيح الاكتفاء بصلاح تربية اولادك، فهؤلاء من شأنهم التأثر بأولاد الجيران، ولذلك فإن اصلاح الغير يعني بصورة مباشرة اصلاح نفسك، بما في ذلك اصلاح اولادك.

مسؤولية الحفاظ على الاموال:
لعل من اهم مشاكلنا هي التخلف الاقتصادي، ومسؤولية الحفاظ على المال والنهوض بالمستوى الاقتصادي، من المسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتق الانسان، فالمال كما هو معروف عامل مساعد لتجنب العديد من الامراض الاجتماعية المهلكة...

الحفاظ على الدولة والامة:
ان يحافظ المرء على دولته ومجتمعه في مقابل الهجمات المعادية، يكون قد ادّى مهمة حساسة جداً، فهذا الغرب الذي يعمل على تقطيع اوصال امتنا المسلمة لابد من العمل على اجهاض مؤامراته بوعي ويقظة كاملتين، لكي نضمن التقدم ونكون ممن تحدثت عنهم الآيات التي بدأنا بها حديثنا هذا.
نسأل الله سبحانه ان يجعلنا ممن يتحمل مسؤولياته ويؤدي امانته وان نكون كما يريد لنا الله، وان يوفقنا لمزيد عبادته في هذا الشهر المبارك شهر رجب الحرام، انه ولي التوفيق. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

BaTi(^_^)GooL
08-23-2004, 09:57 PM
مشكور أخي قطيفي على الموضوع الجميل

دموع السماء
08-24-2004, 01:31 AM
مشكور علىى الموضوع

الله يعطيك العافيه



تحياتي دموع السماء

قطيفيss
08-24-2004, 12:38 PM
العفو ياخواني الاعزاء