نور الهدى
05-12-2007, 05:00 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا ابو القاسم محمد وعلى ال بيته الطيبين الطاهرين وعلى اصحابه المنتجبين
الفقر الإنساني إلى الله
في مجال الدعاء، نذكر ما ورد من أدعية القرآن، ومنها دعاء النبي موسى(ع) عندما خرج من مصر خائفاً يترقب، لأن شرطة فرعون كانوا يلاحقونه من أجل أن يقتلوه، بعد أن قتل شخصاً منهم في مقام الدفاع عن شخص آخر من قومه من المستضعفين، وهكذا جاءه شخص وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج منها، وخرج من مصر مشياً على الأقدام، حتى وصل إلى مدين، ووصل إلى مكان البئر التي يستقي الناس منها، ووجد امرأتين ومعهما أغنامهما، وكانا يبعدان الأغنام عن منطقة الماء، لأن الرجال كانوا يجتمعون حول الماء ليسقوا أغنامهم، ورآهما موسى مستضعفتين، فسألهما عن سبب ابتعادهما عن الماء، فقالتا إنّنا ننتظر أن ينتهي هؤلاء الناس من السقي لنذهب، وليس عندنا أحد وأبونا شيخ كبير، فأشفق عليهما، وأخذ أغنامهما وسقاها من البئر إلى جانب الرجال الذين يسقون.
وبعد أن فرغ من هذا، وكان متعباً من سفره الطويل، ومن خلال هذا الجهد الذي بذله في سقي الأغنام، أسند ظهره إلى شجرة، فتولى إلى الظل ولم يكن له أحد، ليس له صديق ولا قريب، فتوجه إلى ربه وقال: {ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} [القصص:24]، فهو في هذه الحالة من الجهد ومن التعب، توجه إلى ربه ليشكره على ما هيّأ له من الأمن والنجاة من قوم فرعون الذين أرادوا أن يقتلوه، ثم عبّر عن فقره إلى الله، لأنه ليس له ولا عشيرة، وليس له من يعرفه حتى يستعين به في هذه البلدة التي قدم إليها أخيراً، فكأنه يبتهل إلى الله تعالى ليشكره على ما أولاه من الخير، وليطلب منه أن يكون هو الذي يرفع فقره، وهو الذي يمنحه الملجأ والمأوى والعمل حتى يستطيع أن يدير حياته.
{ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}، أي أنا مفتقر إلى كلِّ ما منحتني إياه يا رب، ولذلك فإني أطلب منك أن تمنحني في المستقبل ما منحتني إياه في هذه الحالة. وهذه الحالة هي حالة الإنسان الذي يعيش في هذه الدنيا ويشعر بالحاجة إلى الله تعالى في كل شيء، وبأنّ عليه دائماً أن يتحدث مع ربه ليعترف إليه بفقره، وليشهده على هذا الاعتراف، وليطلب منه أن يمنحه ما يحلّ له مشكلة الفقر أو غيره من البلاء، والله سبحانه وتعالى هو الغني الكريم الذي يلطف بعبده ويرحمه في كل حالات الشدة، وفي كل حالات الجهد والبلاء.
وقد قرأنا في القرآن الكريم قوله تعالى: {ومَن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2]، وهو الإنسان الذي تُسَدُّ عليه كل الأبواب، بحيث يكون في موقع مغلق من جميع الجهات، حيث لا مخرج يخرج منه، ولا منفذ ينفذ إليه، فالله تعالى يقول هنا إنّ الإنسان الذي يلجأ إلى ربه ويبتهل إليه ويدعوه ويتقيه في كل ما أمره به، وفي كل ما نهاه عنه، فإن الله تعالى يجعل له مخرجاً من حيث لا مخرج، ومنفذاً من حيث لا منفذ، أي أنّ الله سبحانه يفتح له باباً من حيث لا يدري أن هناك باباً يستطيع أن ينفذ أو يخرج منه {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه} [الطلاق:3]، فالإنسان الذي ليس عنده أحد، ويعيش هذه الحالة الروحية، ويقول يا ربي توكلت عليك، فالله تعالى هو يكفيه بالوسائل التي يخلقها ويهيّئها له.
وهكذا نجد أن الله يريد للإنسان أن يشعر دائماً بالفقر إليه، لأن بعض الناس إذا صار عنده قوة عضلات أو قوة سلاح أو مال أو قوة سلطة، يشعر بأنه غير محتاج لأحد، فينسى ربه، كما حصل مع قارون عندما قال له قومه: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين* وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:76-77]، فماذا قال؟ قال ما دخل الله في الموضوع {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص:78]، فأنا قد حصلت على ذلك من خلال خبرتي وفطنتي وذكائي، فما دور الله في ذلك؟.
فكان الجواب الإلهي: {فخسفنا به وبداره الأرض} [القصص:81]. فهناك بعض الناس يشعر أنّه إذا صار عنده شيء من القوة، وهذه القوة هي من الله، يشعر بالاستغناء عن الله. والله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن ذلك بقوله: {إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى} [العلق:6-7]، وذلك يعني أنّ الإنسان إذا رأى أنّه أصبح عنده غنى؛ إما غنى في القوة أو في المال أو في الجاه، يصبح عنده طغيان من خلال شعوره بالعظمة. لذلك يريد الله تعالى للإنسان دائماً، بالدعاء وبالذكر، أن يشعر بفقره إلى الله تعالى. وهذا ما نلحظه في حياة الأئمة(ع)، حيث كان الإمام زين العابدين(ع) عندما يدخل إلى المسجد، يقف في باب المسجد ويقول: "عبدك ببابك، فقيرك ببابك، مسكينك ببابك"، يعني يا رب، أنا أتيت إلى بيتك، لأن المساجد هي بيوت الله {وأن المساجد لله} [الجن:18]، فالمسجد لله وليس لأحد. نعم، هناك أناس يخدمون المسجد، وأناس يبنون المسجد، ولكن المسجد ليس لأحد.
ولذا لا يصحُّ أن نجعل مساجدنا مساجد مختصة بعشيرة معينة، أو جماعة أو حزب معين أو جهة معينة، فالمساجد كلّها لله، وعندما يأتي الإنسان إلى المسجد، يقول لله تعالى: يا ربي أنا جئت إلى بيتك، كما إذا كان الإنسان جائعاً، فإنه يقصد بيتاً يطعمه، أو إذا كان فقيراً يذهب ويطرق باباً ليعطيه. وهذا من هذا القبيل، فعندما تدخل إلى المسجد، استحضر في نفسك أنك داخل إلى بيت الله تعالى.
الله سبحانه تعالى يقول في إحدى الآيات: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد* وما ذلك على الله بعزيز} [فاطر:15-17]. البشرية الآن أكثر من خمسة مليارات، والله سبحانه وتعالى بكلمة منه يمكن أن يذهب كل هؤلاء {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}، وإذا أردنا أن نعرف المسألة على الطبيعة، نسأل: أين الناس الذين كانوا قبل مئة سنة؟ كانوا يملأون الدنيا، ولكن الله سبحانه وتعالى أذهبهم وجاء بأجيال بعدها يتلو بعضها بعضاً.
بعض الناس يقول لك أنا لا أحتاج إلى الله، عندي مال، وصحة وأولاد وعقارات وسلطة، فأنا أملك كلّ مقوّمات القوة والبقاء.. نقول له صحيح ذلك، لكن هذا الهواء الذي تتنفسه، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ هذا الطعام الذي يهيئه الله لك من الزرع أو من الحيوانات أو من غير ذلك، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ هذا الماء الذي أنزله الله تعالى من المزن والذي يتفجر من الأرض، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: "إذا أردت أن تعصي الله فاعصه بشيء لم ينعم به عليك"، خذ حريتك بالمعصية، ولكن إذا أردْتَ أن تعصيه فاعصه بما لم ينعم به عليك، فبماذا تعصيه؟ بيديك، برجليك، بعينيك، بلسانك، بأذنيك... هذه الأعضاء والوسائل كلها من الله تعالى، {وما بكم من نعمةٍ فمن الله} [النحل:53]، وليس هناك شيء تستغني فيه عن الله سبحانه وتعالى.
إذاً الإنسان يستحضر دائماً في نفسه أنه فقير إلى الله بكله، وعندما يكون فقيراً إلى الله تعالى ويريد منه أن يعطيه الغنى وينقذه من هذا الفقر ويُلبي له حاجاته، فإنّ عليه أن يطيعه، لأنه هل يصح بصاحب الحاجة أن يذهب إلى مَن حاجاته عنده ليطلبها منه وهو يحاربه ويعصيه؟ لذلك علينا أن نتأدّب مع الله سبحانه وتعالى، ونتّقيه في كل أعمالنا.
وهكذا حال موسى(ع)، حيث كان مُجْهداً وغريباً في بلدٍ ليس له فيه أحد، وليس له إلا الله تعالى كما قلنا، {ثم تولى إلى الظل وقال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص:24]، في هذه الأثناء، فتح الله تعالى له الأبواب، ماذا فعل له؟ يقول {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء}، فجاءت ابنة النبي شعيب وهي مستحية، لأنها مؤمنة، وهو شاب، {قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص:25]، والدي أرسلني لأنك بذلت جهداً وسقيت لنا الأغنام، وهذا عمل له أجر، تفضّل إلى بيتنا فأبونا شيخٌ كبير، فذهب إلى شعيب وقصّ عليه القصة، فطمأنه وقال له لقد ذهب عنك الخوف يا موسى وأصبحت آمناً عندنا، وأنت مجار في رعايتنا.
ثمّ قال له شعيب: أزوجك إحدى ابنتي هاتين، ولكن المهر هو أن تعمل عندي ثماني سنوات مقابل هذا الزواج، فإن أتممتَ عشراً فمن عندك، نحن لنا عليك ثمان سنوات، وإذا أردت أن تكملها عشر سنين، فالأمر عندك إذا أحببت.
وهكذا كان، وعاش موسى(ع) في رعاية النبي شعيب(ع)، وتزوج وشعر بالاستقرار وبالأمن، وأخلص لشعيب في ما استأجره به، ثم أراد أن يذهب حيث أراد الله أن يرسله، وسار بأهله في تلك الصحراء عائداً إلى مصر، فرأى ناراً، {قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوةٍ من النار لعلّكم تصطلون} [القصص:29] وكانت العادة السائدة أنه إذا كانت هناك نار، يذهب الرجل ليأخذ من هذه النار ثم يأتي إلى أهله بها للطبخ والضياء والدفء، وهناك خاطب الله موسى قائلاً: {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدّس طُوى} [طه:12]، الله سبحانه وتعالى كلّمه آنذاك، وأخرج من هذه النار الإلهية رسولاً، وبيّن له مهمّته الرسالية، وهي أنه سيبعثه إلى فرعون ليخرجه من ضلاله، وقال الله تعالى: {ألقِ عصاك فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانٌ ولّى مدبراً} كأنه جني.
فموسى لم يكن شاهد مثل هذا من قبل وقد ظنّ أنها فعلاً أفعى عظيمة {ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين}. أيضاً كان موسى(ع) أسمر، فجعل يده بيضاء، قال له: {فذانك برهانان}. وانطلق موسى بعد ذلك إلى فرعون. وكلّنا نعرف قصّة النبيّ موسى(ع)، فقد فتح الله سبحانه وتعالى له كل هذه المساحة العظيمة إلى أن بعثه رسولاً.
فهذه الآية الصغيرة: {ربي إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير}، يجب أن نعيشها ونُدخلها في عقولنا وقلوبنا، وأن نتحرك بها في حياتنا، ونشعر أنه ليس هناك إلا الله تعالى، حتى الناس الذين يساعدوننا ويعينوننا، هؤلاء إنّما أرسلهم الله تعالى لنا وألهمهم أن يساعدونا، وهو الذي يهيئهم لنا، ليس هناك إلا الله تعالى، إذا قدرنا أن نحصِّل هذه الروحانية وهذه العلاقة بالله، وهذا القرب من الله، فلن نصاب بيأس، ولن نصاب بإحباط، ولن نصاب بسقوط، الله قال لنا في بعض الأوقات قد أُجربّكم وأمتحنكم، ولكن {إن مع العسر يسراً} [الشرح:6] فسيجعل الله من بعد عسرٍ يسراً. والحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا ابو القاسم محمد وعلى ال بيته الطيبين الطاهرين وعلى اصحابه المنتجبين
الفقر الإنساني إلى الله
في مجال الدعاء، نذكر ما ورد من أدعية القرآن، ومنها دعاء النبي موسى(ع) عندما خرج من مصر خائفاً يترقب، لأن شرطة فرعون كانوا يلاحقونه من أجل أن يقتلوه، بعد أن قتل شخصاً منهم في مقام الدفاع عن شخص آخر من قومه من المستضعفين، وهكذا جاءه شخص وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج منها، وخرج من مصر مشياً على الأقدام، حتى وصل إلى مدين، ووصل إلى مكان البئر التي يستقي الناس منها، ووجد امرأتين ومعهما أغنامهما، وكانا يبعدان الأغنام عن منطقة الماء، لأن الرجال كانوا يجتمعون حول الماء ليسقوا أغنامهم، ورآهما موسى مستضعفتين، فسألهما عن سبب ابتعادهما عن الماء، فقالتا إنّنا ننتظر أن ينتهي هؤلاء الناس من السقي لنذهب، وليس عندنا أحد وأبونا شيخ كبير، فأشفق عليهما، وأخذ أغنامهما وسقاها من البئر إلى جانب الرجال الذين يسقون.
وبعد أن فرغ من هذا، وكان متعباً من سفره الطويل، ومن خلال هذا الجهد الذي بذله في سقي الأغنام، أسند ظهره إلى شجرة، فتولى إلى الظل ولم يكن له أحد، ليس له صديق ولا قريب، فتوجه إلى ربه وقال: {ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} [القصص:24]، فهو في هذه الحالة من الجهد ومن التعب، توجه إلى ربه ليشكره على ما هيّأ له من الأمن والنجاة من قوم فرعون الذين أرادوا أن يقتلوه، ثم عبّر عن فقره إلى الله، لأنه ليس له ولا عشيرة، وليس له من يعرفه حتى يستعين به في هذه البلدة التي قدم إليها أخيراً، فكأنه يبتهل إلى الله تعالى ليشكره على ما أولاه من الخير، وليطلب منه أن يكون هو الذي يرفع فقره، وهو الذي يمنحه الملجأ والمأوى والعمل حتى يستطيع أن يدير حياته.
{ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}، أي أنا مفتقر إلى كلِّ ما منحتني إياه يا رب، ولذلك فإني أطلب منك أن تمنحني في المستقبل ما منحتني إياه في هذه الحالة. وهذه الحالة هي حالة الإنسان الذي يعيش في هذه الدنيا ويشعر بالحاجة إلى الله تعالى في كل شيء، وبأنّ عليه دائماً أن يتحدث مع ربه ليعترف إليه بفقره، وليشهده على هذا الاعتراف، وليطلب منه أن يمنحه ما يحلّ له مشكلة الفقر أو غيره من البلاء، والله سبحانه وتعالى هو الغني الكريم الذي يلطف بعبده ويرحمه في كل حالات الشدة، وفي كل حالات الجهد والبلاء.
وقد قرأنا في القرآن الكريم قوله تعالى: {ومَن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2]، وهو الإنسان الذي تُسَدُّ عليه كل الأبواب، بحيث يكون في موقع مغلق من جميع الجهات، حيث لا مخرج يخرج منه، ولا منفذ ينفذ إليه، فالله تعالى يقول هنا إنّ الإنسان الذي يلجأ إلى ربه ويبتهل إليه ويدعوه ويتقيه في كل ما أمره به، وفي كل ما نهاه عنه، فإن الله تعالى يجعل له مخرجاً من حيث لا مخرج، ومنفذاً من حيث لا منفذ، أي أنّ الله سبحانه يفتح له باباً من حيث لا يدري أن هناك باباً يستطيع أن ينفذ أو يخرج منه {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه} [الطلاق:3]، فالإنسان الذي ليس عنده أحد، ويعيش هذه الحالة الروحية، ويقول يا ربي توكلت عليك، فالله تعالى هو يكفيه بالوسائل التي يخلقها ويهيّئها له.
وهكذا نجد أن الله يريد للإنسان أن يشعر دائماً بالفقر إليه، لأن بعض الناس إذا صار عنده قوة عضلات أو قوة سلاح أو مال أو قوة سلطة، يشعر بأنه غير محتاج لأحد، فينسى ربه، كما حصل مع قارون عندما قال له قومه: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين* وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:76-77]، فماذا قال؟ قال ما دخل الله في الموضوع {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص:78]، فأنا قد حصلت على ذلك من خلال خبرتي وفطنتي وذكائي، فما دور الله في ذلك؟.
فكان الجواب الإلهي: {فخسفنا به وبداره الأرض} [القصص:81]. فهناك بعض الناس يشعر أنّه إذا صار عنده شيء من القوة، وهذه القوة هي من الله، يشعر بالاستغناء عن الله. والله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن ذلك بقوله: {إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى} [العلق:6-7]، وذلك يعني أنّ الإنسان إذا رأى أنّه أصبح عنده غنى؛ إما غنى في القوة أو في المال أو في الجاه، يصبح عنده طغيان من خلال شعوره بالعظمة. لذلك يريد الله تعالى للإنسان دائماً، بالدعاء وبالذكر، أن يشعر بفقره إلى الله تعالى. وهذا ما نلحظه في حياة الأئمة(ع)، حيث كان الإمام زين العابدين(ع) عندما يدخل إلى المسجد، يقف في باب المسجد ويقول: "عبدك ببابك، فقيرك ببابك، مسكينك ببابك"، يعني يا رب، أنا أتيت إلى بيتك، لأن المساجد هي بيوت الله {وأن المساجد لله} [الجن:18]، فالمسجد لله وليس لأحد. نعم، هناك أناس يخدمون المسجد، وأناس يبنون المسجد، ولكن المسجد ليس لأحد.
ولذا لا يصحُّ أن نجعل مساجدنا مساجد مختصة بعشيرة معينة، أو جماعة أو حزب معين أو جهة معينة، فالمساجد كلّها لله، وعندما يأتي الإنسان إلى المسجد، يقول لله تعالى: يا ربي أنا جئت إلى بيتك، كما إذا كان الإنسان جائعاً، فإنه يقصد بيتاً يطعمه، أو إذا كان فقيراً يذهب ويطرق باباً ليعطيه. وهذا من هذا القبيل، فعندما تدخل إلى المسجد، استحضر في نفسك أنك داخل إلى بيت الله تعالى.
الله سبحانه تعالى يقول في إحدى الآيات: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد* وما ذلك على الله بعزيز} [فاطر:15-17]. البشرية الآن أكثر من خمسة مليارات، والله سبحانه وتعالى بكلمة منه يمكن أن يذهب كل هؤلاء {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}، وإذا أردنا أن نعرف المسألة على الطبيعة، نسأل: أين الناس الذين كانوا قبل مئة سنة؟ كانوا يملأون الدنيا، ولكن الله سبحانه وتعالى أذهبهم وجاء بأجيال بعدها يتلو بعضها بعضاً.
بعض الناس يقول لك أنا لا أحتاج إلى الله، عندي مال، وصحة وأولاد وعقارات وسلطة، فأنا أملك كلّ مقوّمات القوة والبقاء.. نقول له صحيح ذلك، لكن هذا الهواء الذي تتنفسه، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ هذا الطعام الذي يهيئه الله لك من الزرع أو من الحيوانات أو من غير ذلك، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ هذا الماء الذي أنزله الله تعالى من المزن والذي يتفجر من الأرض، هل تستطيع أن تستغني عنه؟ وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: "إذا أردت أن تعصي الله فاعصه بشيء لم ينعم به عليك"، خذ حريتك بالمعصية، ولكن إذا أردْتَ أن تعصيه فاعصه بما لم ينعم به عليك، فبماذا تعصيه؟ بيديك، برجليك، بعينيك، بلسانك، بأذنيك... هذه الأعضاء والوسائل كلها من الله تعالى، {وما بكم من نعمةٍ فمن الله} [النحل:53]، وليس هناك شيء تستغني فيه عن الله سبحانه وتعالى.
إذاً الإنسان يستحضر دائماً في نفسه أنه فقير إلى الله بكله، وعندما يكون فقيراً إلى الله تعالى ويريد منه أن يعطيه الغنى وينقذه من هذا الفقر ويُلبي له حاجاته، فإنّ عليه أن يطيعه، لأنه هل يصح بصاحب الحاجة أن يذهب إلى مَن حاجاته عنده ليطلبها منه وهو يحاربه ويعصيه؟ لذلك علينا أن نتأدّب مع الله سبحانه وتعالى، ونتّقيه في كل أعمالنا.
وهكذا حال موسى(ع)، حيث كان مُجْهداً وغريباً في بلدٍ ليس له فيه أحد، وليس له إلا الله تعالى كما قلنا، {ثم تولى إلى الظل وقال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص:24]، في هذه الأثناء، فتح الله تعالى له الأبواب، ماذا فعل له؟ يقول {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء}، فجاءت ابنة النبي شعيب وهي مستحية، لأنها مؤمنة، وهو شاب، {قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص:25]، والدي أرسلني لأنك بذلت جهداً وسقيت لنا الأغنام، وهذا عمل له أجر، تفضّل إلى بيتنا فأبونا شيخٌ كبير، فذهب إلى شعيب وقصّ عليه القصة، فطمأنه وقال له لقد ذهب عنك الخوف يا موسى وأصبحت آمناً عندنا، وأنت مجار في رعايتنا.
ثمّ قال له شعيب: أزوجك إحدى ابنتي هاتين، ولكن المهر هو أن تعمل عندي ثماني سنوات مقابل هذا الزواج، فإن أتممتَ عشراً فمن عندك، نحن لنا عليك ثمان سنوات، وإذا أردت أن تكملها عشر سنين، فالأمر عندك إذا أحببت.
وهكذا كان، وعاش موسى(ع) في رعاية النبي شعيب(ع)، وتزوج وشعر بالاستقرار وبالأمن، وأخلص لشعيب في ما استأجره به، ثم أراد أن يذهب حيث أراد الله أن يرسله، وسار بأهله في تلك الصحراء عائداً إلى مصر، فرأى ناراً، {قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوةٍ من النار لعلّكم تصطلون} [القصص:29] وكانت العادة السائدة أنه إذا كانت هناك نار، يذهب الرجل ليأخذ من هذه النار ثم يأتي إلى أهله بها للطبخ والضياء والدفء، وهناك خاطب الله موسى قائلاً: {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدّس طُوى} [طه:12]، الله سبحانه وتعالى كلّمه آنذاك، وأخرج من هذه النار الإلهية رسولاً، وبيّن له مهمّته الرسالية، وهي أنه سيبعثه إلى فرعون ليخرجه من ضلاله، وقال الله تعالى: {ألقِ عصاك فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانٌ ولّى مدبراً} كأنه جني.
فموسى لم يكن شاهد مثل هذا من قبل وقد ظنّ أنها فعلاً أفعى عظيمة {ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين}. أيضاً كان موسى(ع) أسمر، فجعل يده بيضاء، قال له: {فذانك برهانان}. وانطلق موسى بعد ذلك إلى فرعون. وكلّنا نعرف قصّة النبيّ موسى(ع)، فقد فتح الله سبحانه وتعالى له كل هذه المساحة العظيمة إلى أن بعثه رسولاً.
فهذه الآية الصغيرة: {ربي إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير}، يجب أن نعيشها ونُدخلها في عقولنا وقلوبنا، وأن نتحرك بها في حياتنا، ونشعر أنه ليس هناك إلا الله تعالى، حتى الناس الذين يساعدوننا ويعينوننا، هؤلاء إنّما أرسلهم الله تعالى لنا وألهمهم أن يساعدونا، وهو الذي يهيئهم لنا، ليس هناك إلا الله تعالى، إذا قدرنا أن نحصِّل هذه الروحانية وهذه العلاقة بالله، وهذا القرب من الله، فلن نصاب بيأس، ولن نصاب بإحباط، ولن نصاب بسقوط، الله قال لنا في بعض الأوقات قد أُجربّكم وأمتحنكم، ولكن {إن مع العسر يسراً} [الشرح:6] فسيجعل الله من بعد عسرٍ يسراً. والحمد لله رب العالمين.