حمد حسن
03-25-2007, 01:38 PM
أنا والآخر.. مساحات الحرية وحدودها
نضير الخزرجي*
ثمّت تساؤل: هل يعني الإقرار باصالة الحرية، ان للمرء أن يفعل ما يشاء، وله ان يتصرف بما تملي عليه ارادته، دون ان يكون لمن يعيش معه ادنى تدخل او تأثير، سلبا او ايجابا، وليس للمحيط او الطبيعة والبيئة والفضاء اية حرمة او حق؟
في الواقع يمكن تصور مثل هذه الوضعية، لو ان الانسان عاش لوحده في بقعة من الارض مقطوع الاتصال مع المحيط الخارجي، على ان مثل هذا التصور مثالي هو الاخر، لان حرية الانسان لا يأخذ بها ملحوظا حريات الاخرين فحسب، فالانسان لا يتعامل مع نظيره الاخر فقط، فحرية الانسان لها مساس مع علاقة الانسان بالله وبالطبيعة وبالحيوانات وبجسده، فمن الحرية ان يأكل الانسان الطعام، ولكن ليس من الحرية ان يأكل الطعام المضر، فمن الحرية ان يأكل لحم الغنم، ولكن ليس من الحرية ان يبيد الثروة الحيوانية، فمن الحرية استعمال الشجر للتدفئة والطبخ وصنع الأدوات المنزلية وما اشبه، وليس منها ابادة الثروة الزراعية وتخريب البيئة، فاصالة الحرية لا تعني الفوضى في تصرفات الانسان.
نعم فالله الخالق جل وعلا، والشرع، والعقل السليم الذي لا يتخلف عن التشريع، وسيرة العقلاء، كلها توجّه الانسان نحو طريق الرقي والتكامل، وحتى يصل الى هذه المرحلة، يقتضي فيه ان يكون حر الارادة والتفكير والتصرف، ولما كان سكان الارض هم آحاد الناس، وكلهم يسعى نحو السمو، فمن الطبيعي ان تتصادم الارادات والحريات ويحصل التزاحم والتعارض، من هنا فان العقل يسلم بضرورة وجود ضوابط وشواخص لحرية الانسان، اذ ليس من المعقول التمسك باصالة الحرية للاضرار بحرية الاخرين او الاضرار بالطبيعة والمحيط الخارجي، او الاضرار بذات الانسان وجسده، فهو فضلا عن تعارضه مع حرية الاخرين فهو من الخرق الذي يتعارض مع حكمة الخلق وحكمة اصالة الحرية التي اريد بها ان يسمو الانسان لا ان يتسافل.
في هذا الاطار يقول الشيخ مصباح يزدي استاذ الفلسفة الاسلامية في حوزة قم العلمية: "ان الحكمة الالهية تقضي بان يبلغ كل انسان الغاية من وجوده، وهذا لا يقتصر على انسان واحد، بل اقتضت الحكمة الالهية ان تتهيأ لكل فرد مستلزمات تكامله الاختياري، فالله ليس اله شخص واحد، بل هو اله لكل المخلوقات، لذلك يجب ان تكون ظروف النمو والتكامل الاختياري متوفرة للجميع، والاحتكاك الذي يحصل بين الافراد هو الذي يوجب وضع القوانين الحقوقية، ولم تكن هناك ضرورة لها، اذ كان يمكن الاكتفاء بالقوانين الاخلاقية والتكاليف الشرعية الفردية فحسب، ولكن نظرا لحصول هذا الاحتكاك في غضون تقدم الانسان نحو التكامل في الحياة الدنيوية، كان لابد من وجود تعاليم تنظم هذه العلاقات بحيث يتاح لكل فرد ان ينتخب بشكل مقبول طريقه نحو الكمال النهائي ويسير فيه"(1).
الحرية المعقولة واللامعقولة
يقول الفيلسوف الايراني الشيخ محمد تقي بن كريم الجعفري (1344-1419هـ): "ولتوضيح معنى الحرية المعقولة وقيمتها يجب اولا ان ندرك هذه الحقيقة، وهي ان المعقولية وعدمها ليستا متضمنتين في ذات الحرية، ذلك ان معنى الحرية فتح المجال للفعل والترك لانسان ما سواء كان من طرف واحد او من الطرفين، ذا قيمة او منافيا للقيمة. والذي يجعل الحرية موصوفة بالمعقولية وعدمها يرتبط باسلوب الاستفادة من الحرية، فاذا كان مطابقا للاصول والقوانين الانسانية المفيدة كانت الحرية معقولة، وان كان ضد الاصول والقوانين الانسانية المفيدة سميت غير معقولة، وعليه فان كل حرية من قبيل حرية العقيدة والفكر يستفاد منها بشكل يضر بالانسانية ضررا معنويا او ماديا تعتبر حرية غير معقولة، وهي التي يحس بها الهمجي السكران في اعماقه".
ويضيف الجعفري: "أما اذا كانت الحرية موافقة للاصول والقوانين الانسانية المفيدة واستفيد منها بالاتجاه الموجب، فهي معقولة، واذا شئنا ان نعبر عن الحرية اللامعقولة بتعبير اكثر دقة، قلنا: الحرية هي التي توصل هوى الأنا الطبيعية المحصّنة الى مرحلة الفعلية"(2).
نلمس قريبا من هذا المعنى عند الباحث الفلسطيني الدكتور سري نسيبة وهو يتحدث عن حرية التعبير، لكنه يصنف الحرية الى حرية خير (حق) وحرية شر (غير حق) فهو يرى ان حرية التعبير لا ينبغي ان يساء فهمها رغم انها حق، فيصدق عليها منطوق الحق: "بشرط ان لا تكون اعتداء على حقوق الاخرين، وايذاء الاخرين قد يشكل في بعض الاحيان اعتداء على حقوقهم. حينما يكون ايذاء الاخرين غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي يسببه شرا، ويشكل اعتداء على حقوقهم، فان كان ذلك العمل هو حرية الرأي لا يصدق الحمل عليه أو، لا يوصف انه حق، أي لا تكون حرية الرأي في هذه المرحلة حقا".
فالاعتبار الرئيسي هنا كما يقول نسيبه: "هو اذا ما كان المسّ بالشعور يكوّن غاية بحد ذاتها، فاذا كان يكوّن غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي اقيم لتحقيقها شرا بالقياس اليها، أكان هذا العمل تعبيرا لفظيا عن الرأي أم أي شيء اخر". مضيفا: "فحرية التعبير عن الرأي، فهي خير بشرط ان لا تشكل اعتداء على حقوق الاخرين، والاعتداء على حقوقهم هنا قد يتمثل في ايذائهم، حيث يكون الايذاء غاية في حد ذاتها، فاذا كان القصد الاول ها هنا هو التعبير عن الرأي، ولم يكن ايذاء الناس غاية في حد ذاتها، تكون حرية التعبير عن الرأي حقا وخيرا لذلك، اما اذا قصدت ايذاء الناس بتعبيري عن رأيي، وكان الايذاء اعتداء على حقوقهم، فلا يصدق الحمل على حرية التعبير هذه بانها حق وخير، فان كان هذا كذلك، فلا يكون قصدي الاول في هذه الحالة خيرا اصلا"(3).
ولكننا اذا سلّمنا بهذا الرأي وهو صحيح من حيث اننا غير مأمورين بتفتيش صدور الناس ومعرفة نواياهم، فهم مسلطون على أنفسهم، ولكن قد يقود جهل المعبر عن رأيه الى إيقاع الأذى بالاخرين من دون ان يقصد او نوى ذلك، فماذا نفعل حينئذ؟
من الطبيعي والنتيجة هذه، يلزم وضع ضوابط وقوانين لحرية التعبير، ولمجمل الحريات، والا من دونها لا يمكن ان نحكم على افعال الناس بالخيرية اذا ما ألحقت الاذى بدعوى ان الفاعل لم ينو او يقصد الاذى، نعم ان صدق النية يدخل عاملا مساعدا في تخفيف الوطء في مقام الاذى الحاصل، ويمكن تشبيه ذلك، بالذي يرتكب جنحة القتل خطأ، فهو لم يقصد القتل، ولكن الحدث وقع وأزهق عن غير عمد، روحا محترمة أعزها الله، او كمن يسير في عربته ويدهس انسانا من غير قصد، او مثل من ينظف سلاحه الناري وتصيب رصاصة قريبا منه خطأ، فتعمد القتل غير وارد في هذه الحالات، لكن الأذى وقع وحصل بالفعل، نعم الحكم هنا يختلف، لان موضوع الحكم في مثل هذه الحالات دائر مدار قصد النية من عدمها.
الحرية والقانون
وهناك تجاذب بين حرية الفرد وحرية الجماعة، وهذا امر مسلّم به لاننا نعايشه كل لحظة ونتعايش معه، وينبغي ان نتعايش معه، لانه لا كوكب اخر يجمع بني الانسان غير كوكب الارض، الا اذا تطور العلم ووجد كوكبا اخر يلائم طبيعة الانسان الفسيولوجية، وعلى افتراض وقوع مثل هذا الامر، وهو ليس من المستحيلات فان المعايشة هي الأخرى أمر حتمي، من هنا قال مؤسس المدرسة التجريبية الحديثة، الفيلسوف البريطاني، جون لوك (John Locke) (1632-1704م) عند تطرقه للحرية وضوابطها من جانبها الفقهي القانوني بانها عبارة عن: "الحق في فعل ما تسمح به القوانين". ويعرفها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م) بأنها: "عبارة عن طاعة الارادة العامة"(4)، فالقانون، في ترسيم حدود الحق هو العامل المشترك في اكثر ما يذهب اليه الفلاسفة بشأن الحرية، ولذلك فان: "جون لوك وجان جاك روسو، كلاهما آمنا بان الناس بامكانهم فقط ان يكونوا احرارا عندما يضعون أسورة القوانين حول معاصمهم ومعاصم الاخرين على السواء، وقد اشار لوك الى هذا المعنى بالقول: الحرية من منظار القوانين"(5)، فيما دافع روسو عن رأيه: "ان الرجل يجب ان يجبر لأن يكون حرا، بمعنى آخر ينبغي عليه ان يكره على ذلك، ومهما تكن مبلغ كراهيته، ينبغي عليه ان يقبل بالقوانين التي هو يكرهها حتى يكون حرا حقا"(6).
بازاء جون لوك وجان جاك روسو نجد احد زعماء ما يوصف بالتيار الفوضوي وهو الروسي ميخائيل باكونين (Mikhail Bakunin) (1814-1876) ، يصر في آرائه الفلسفية: "ان الناس عادة يتبعون الضرورات الاجتماعية في تعاملاتهم حتى في غياب كامل للقوانين وللسلطة، فانه ليس هناك من شيء احق من الحرية المطلقة. واشتهر عنه القول: هناك رغبة ملحة لان يكون كل انسان حكيما بما فيه الكفاية لادارة نفسه من غير تدخل أي عائق اجباري"(7).
ربما يكون باكونين مقتنعا بما يقول اذا حاول اعتبار كل الناس حكماء بما فيه الكفاية، وهذا امر لم ولن يتحقق في هذه الدنيا، وهو يدرك ايضا استحالة تحقيق مثل هذا الامر، ولذلك فانه لا يمكن الحديث عن حرية مطلقة بغياب قانون دولة ينظم شؤون المجتمع، وسلطة ورادع من داخل النفس، وحسن النية والامنية بخلق مجتمع حكيم لا يسدان الخلل الذي سيحصل من غياب قانون، حتى في المجتمعات الصغيرة فان قانون الاسرة او العشيرة او الحي ينظم وفق رؤية وعرف المجتمع الصغير للحياة، والعلاقة بين افراد هذا المجتمع، وتشخيص حرية كل فرد من افراده، وليس الرضا بالقانون المنظم لقنوات الحرية شرطا لسريانه على الجميع وانما قبوله من جانب الفرد وان رفضته نفسه يعتبر اساس تنظيم حياة المجتمع، فالرضا حالة سامية لا يمكن وجدانها عند كل الناس، ولكن القبول امر يمكن نشدانه عند الكل بشكل عام وان تعافت بعض النفوس عن الرضا به.
وفي هذا الاطار يقول الباحث والسياسي السوداني الدكتور حسن عبد الله الترابي وهو يتحدث عن حدود حرية الفرد داخل التكتل: "فليست الجماعة المؤمنة إصرا على الفرد ولا غريما يشادّه ويسلب حريته لانها ثمرة من ثمرات اختياره ورضاه، ولا يكون نظامها الا طوعيا يحفظ للفرد قدره ويرعى حرماته متميزا عن نظام الجماعات التي ينضم فيها الفرد قسرا وربما غلب من ثم على سائر امره في الحياة . ولا يعني بناؤها على المشيئة الحرة ان يستبد فيها الفرد بهواه ما شاء، فان حرية الانسان لا تقدر في الدين لذاتها لانها شرط اهلية لاحتمال قدره في الابتلاء وادراك غايته في الاهتداء الى ربه، وليس في وخي الكمال في ان يتسع الفرد في ممارسة حريته عدوانا على حريات الاخرين او تجاوزا لحدود طريقه الى الله، وانما يتوخى المؤمنون الكمال في تعاونهم على عبادة الله وتناصرهم لاعلاء كلمة الله"(8).
نحن هنا امام رأي لا يرى قيمة ذاتية للحرية، بل لانها شرط في الاختبار والابتلاء، وهذا الوصف يمكن سحبه على قيم اخرى، مثل الشورى والتعددية، فالشورى تكون ذات قيمة اذا حققت الوئام داخل المجموعة او المجتمع، والتعددية قيمة ليست لذاتها وانما بما تحققه من تأطير للاختلاف يدفع بالمجتمع نحو التكامل، ويسري هذا الكلام على بقية القيم، ولكن هذه الشرطية لا تسقط عن الحرية اصالتها وقيمتها الذاتية، كما لا تسقط عن الشورى وجوبها اذا لم تحقق النتيجة المطلوبة.
نضير الخزرجي*
ثمّت تساؤل: هل يعني الإقرار باصالة الحرية، ان للمرء أن يفعل ما يشاء، وله ان يتصرف بما تملي عليه ارادته، دون ان يكون لمن يعيش معه ادنى تدخل او تأثير، سلبا او ايجابا، وليس للمحيط او الطبيعة والبيئة والفضاء اية حرمة او حق؟
في الواقع يمكن تصور مثل هذه الوضعية، لو ان الانسان عاش لوحده في بقعة من الارض مقطوع الاتصال مع المحيط الخارجي، على ان مثل هذا التصور مثالي هو الاخر، لان حرية الانسان لا يأخذ بها ملحوظا حريات الاخرين فحسب، فالانسان لا يتعامل مع نظيره الاخر فقط، فحرية الانسان لها مساس مع علاقة الانسان بالله وبالطبيعة وبالحيوانات وبجسده، فمن الحرية ان يأكل الانسان الطعام، ولكن ليس من الحرية ان يأكل الطعام المضر، فمن الحرية ان يأكل لحم الغنم، ولكن ليس من الحرية ان يبيد الثروة الحيوانية، فمن الحرية استعمال الشجر للتدفئة والطبخ وصنع الأدوات المنزلية وما اشبه، وليس منها ابادة الثروة الزراعية وتخريب البيئة، فاصالة الحرية لا تعني الفوضى في تصرفات الانسان.
نعم فالله الخالق جل وعلا، والشرع، والعقل السليم الذي لا يتخلف عن التشريع، وسيرة العقلاء، كلها توجّه الانسان نحو طريق الرقي والتكامل، وحتى يصل الى هذه المرحلة، يقتضي فيه ان يكون حر الارادة والتفكير والتصرف، ولما كان سكان الارض هم آحاد الناس، وكلهم يسعى نحو السمو، فمن الطبيعي ان تتصادم الارادات والحريات ويحصل التزاحم والتعارض، من هنا فان العقل يسلم بضرورة وجود ضوابط وشواخص لحرية الانسان، اذ ليس من المعقول التمسك باصالة الحرية للاضرار بحرية الاخرين او الاضرار بالطبيعة والمحيط الخارجي، او الاضرار بذات الانسان وجسده، فهو فضلا عن تعارضه مع حرية الاخرين فهو من الخرق الذي يتعارض مع حكمة الخلق وحكمة اصالة الحرية التي اريد بها ان يسمو الانسان لا ان يتسافل.
في هذا الاطار يقول الشيخ مصباح يزدي استاذ الفلسفة الاسلامية في حوزة قم العلمية: "ان الحكمة الالهية تقضي بان يبلغ كل انسان الغاية من وجوده، وهذا لا يقتصر على انسان واحد، بل اقتضت الحكمة الالهية ان تتهيأ لكل فرد مستلزمات تكامله الاختياري، فالله ليس اله شخص واحد، بل هو اله لكل المخلوقات، لذلك يجب ان تكون ظروف النمو والتكامل الاختياري متوفرة للجميع، والاحتكاك الذي يحصل بين الافراد هو الذي يوجب وضع القوانين الحقوقية، ولم تكن هناك ضرورة لها، اذ كان يمكن الاكتفاء بالقوانين الاخلاقية والتكاليف الشرعية الفردية فحسب، ولكن نظرا لحصول هذا الاحتكاك في غضون تقدم الانسان نحو التكامل في الحياة الدنيوية، كان لابد من وجود تعاليم تنظم هذه العلاقات بحيث يتاح لكل فرد ان ينتخب بشكل مقبول طريقه نحو الكمال النهائي ويسير فيه"(1).
الحرية المعقولة واللامعقولة
يقول الفيلسوف الايراني الشيخ محمد تقي بن كريم الجعفري (1344-1419هـ): "ولتوضيح معنى الحرية المعقولة وقيمتها يجب اولا ان ندرك هذه الحقيقة، وهي ان المعقولية وعدمها ليستا متضمنتين في ذات الحرية، ذلك ان معنى الحرية فتح المجال للفعل والترك لانسان ما سواء كان من طرف واحد او من الطرفين، ذا قيمة او منافيا للقيمة. والذي يجعل الحرية موصوفة بالمعقولية وعدمها يرتبط باسلوب الاستفادة من الحرية، فاذا كان مطابقا للاصول والقوانين الانسانية المفيدة كانت الحرية معقولة، وان كان ضد الاصول والقوانين الانسانية المفيدة سميت غير معقولة، وعليه فان كل حرية من قبيل حرية العقيدة والفكر يستفاد منها بشكل يضر بالانسانية ضررا معنويا او ماديا تعتبر حرية غير معقولة، وهي التي يحس بها الهمجي السكران في اعماقه".
ويضيف الجعفري: "أما اذا كانت الحرية موافقة للاصول والقوانين الانسانية المفيدة واستفيد منها بالاتجاه الموجب، فهي معقولة، واذا شئنا ان نعبر عن الحرية اللامعقولة بتعبير اكثر دقة، قلنا: الحرية هي التي توصل هوى الأنا الطبيعية المحصّنة الى مرحلة الفعلية"(2).
نلمس قريبا من هذا المعنى عند الباحث الفلسطيني الدكتور سري نسيبة وهو يتحدث عن حرية التعبير، لكنه يصنف الحرية الى حرية خير (حق) وحرية شر (غير حق) فهو يرى ان حرية التعبير لا ينبغي ان يساء فهمها رغم انها حق، فيصدق عليها منطوق الحق: "بشرط ان لا تكون اعتداء على حقوق الاخرين، وايذاء الاخرين قد يشكل في بعض الاحيان اعتداء على حقوقهم. حينما يكون ايذاء الاخرين غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي يسببه شرا، ويشكل اعتداء على حقوقهم، فان كان ذلك العمل هو حرية الرأي لا يصدق الحمل عليه أو، لا يوصف انه حق، أي لا تكون حرية الرأي في هذه المرحلة حقا".
فالاعتبار الرئيسي هنا كما يقول نسيبه: "هو اذا ما كان المسّ بالشعور يكوّن غاية بحد ذاتها، فاذا كان يكوّن غاية بحد ذاتها يكون العمل الذي اقيم لتحقيقها شرا بالقياس اليها، أكان هذا العمل تعبيرا لفظيا عن الرأي أم أي شيء اخر". مضيفا: "فحرية التعبير عن الرأي، فهي خير بشرط ان لا تشكل اعتداء على حقوق الاخرين، والاعتداء على حقوقهم هنا قد يتمثل في ايذائهم، حيث يكون الايذاء غاية في حد ذاتها، فاذا كان القصد الاول ها هنا هو التعبير عن الرأي، ولم يكن ايذاء الناس غاية في حد ذاتها، تكون حرية التعبير عن الرأي حقا وخيرا لذلك، اما اذا قصدت ايذاء الناس بتعبيري عن رأيي، وكان الايذاء اعتداء على حقوقهم، فلا يصدق الحمل على حرية التعبير هذه بانها حق وخير، فان كان هذا كذلك، فلا يكون قصدي الاول في هذه الحالة خيرا اصلا"(3).
ولكننا اذا سلّمنا بهذا الرأي وهو صحيح من حيث اننا غير مأمورين بتفتيش صدور الناس ومعرفة نواياهم، فهم مسلطون على أنفسهم، ولكن قد يقود جهل المعبر عن رأيه الى إيقاع الأذى بالاخرين من دون ان يقصد او نوى ذلك، فماذا نفعل حينئذ؟
من الطبيعي والنتيجة هذه، يلزم وضع ضوابط وقوانين لحرية التعبير، ولمجمل الحريات، والا من دونها لا يمكن ان نحكم على افعال الناس بالخيرية اذا ما ألحقت الاذى بدعوى ان الفاعل لم ينو او يقصد الاذى، نعم ان صدق النية يدخل عاملا مساعدا في تخفيف الوطء في مقام الاذى الحاصل، ويمكن تشبيه ذلك، بالذي يرتكب جنحة القتل خطأ، فهو لم يقصد القتل، ولكن الحدث وقع وأزهق عن غير عمد، روحا محترمة أعزها الله، او كمن يسير في عربته ويدهس انسانا من غير قصد، او مثل من ينظف سلاحه الناري وتصيب رصاصة قريبا منه خطأ، فتعمد القتل غير وارد في هذه الحالات، لكن الأذى وقع وحصل بالفعل، نعم الحكم هنا يختلف، لان موضوع الحكم في مثل هذه الحالات دائر مدار قصد النية من عدمها.
الحرية والقانون
وهناك تجاذب بين حرية الفرد وحرية الجماعة، وهذا امر مسلّم به لاننا نعايشه كل لحظة ونتعايش معه، وينبغي ان نتعايش معه، لانه لا كوكب اخر يجمع بني الانسان غير كوكب الارض، الا اذا تطور العلم ووجد كوكبا اخر يلائم طبيعة الانسان الفسيولوجية، وعلى افتراض وقوع مثل هذا الامر، وهو ليس من المستحيلات فان المعايشة هي الأخرى أمر حتمي، من هنا قال مؤسس المدرسة التجريبية الحديثة، الفيلسوف البريطاني، جون لوك (John Locke) (1632-1704م) عند تطرقه للحرية وضوابطها من جانبها الفقهي القانوني بانها عبارة عن: "الحق في فعل ما تسمح به القوانين". ويعرفها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م) بأنها: "عبارة عن طاعة الارادة العامة"(4)، فالقانون، في ترسيم حدود الحق هو العامل المشترك في اكثر ما يذهب اليه الفلاسفة بشأن الحرية، ولذلك فان: "جون لوك وجان جاك روسو، كلاهما آمنا بان الناس بامكانهم فقط ان يكونوا احرارا عندما يضعون أسورة القوانين حول معاصمهم ومعاصم الاخرين على السواء، وقد اشار لوك الى هذا المعنى بالقول: الحرية من منظار القوانين"(5)، فيما دافع روسو عن رأيه: "ان الرجل يجب ان يجبر لأن يكون حرا، بمعنى آخر ينبغي عليه ان يكره على ذلك، ومهما تكن مبلغ كراهيته، ينبغي عليه ان يقبل بالقوانين التي هو يكرهها حتى يكون حرا حقا"(6).
بازاء جون لوك وجان جاك روسو نجد احد زعماء ما يوصف بالتيار الفوضوي وهو الروسي ميخائيل باكونين (Mikhail Bakunin) (1814-1876) ، يصر في آرائه الفلسفية: "ان الناس عادة يتبعون الضرورات الاجتماعية في تعاملاتهم حتى في غياب كامل للقوانين وللسلطة، فانه ليس هناك من شيء احق من الحرية المطلقة. واشتهر عنه القول: هناك رغبة ملحة لان يكون كل انسان حكيما بما فيه الكفاية لادارة نفسه من غير تدخل أي عائق اجباري"(7).
ربما يكون باكونين مقتنعا بما يقول اذا حاول اعتبار كل الناس حكماء بما فيه الكفاية، وهذا امر لم ولن يتحقق في هذه الدنيا، وهو يدرك ايضا استحالة تحقيق مثل هذا الامر، ولذلك فانه لا يمكن الحديث عن حرية مطلقة بغياب قانون دولة ينظم شؤون المجتمع، وسلطة ورادع من داخل النفس، وحسن النية والامنية بخلق مجتمع حكيم لا يسدان الخلل الذي سيحصل من غياب قانون، حتى في المجتمعات الصغيرة فان قانون الاسرة او العشيرة او الحي ينظم وفق رؤية وعرف المجتمع الصغير للحياة، والعلاقة بين افراد هذا المجتمع، وتشخيص حرية كل فرد من افراده، وليس الرضا بالقانون المنظم لقنوات الحرية شرطا لسريانه على الجميع وانما قبوله من جانب الفرد وان رفضته نفسه يعتبر اساس تنظيم حياة المجتمع، فالرضا حالة سامية لا يمكن وجدانها عند كل الناس، ولكن القبول امر يمكن نشدانه عند الكل بشكل عام وان تعافت بعض النفوس عن الرضا به.
وفي هذا الاطار يقول الباحث والسياسي السوداني الدكتور حسن عبد الله الترابي وهو يتحدث عن حدود حرية الفرد داخل التكتل: "فليست الجماعة المؤمنة إصرا على الفرد ولا غريما يشادّه ويسلب حريته لانها ثمرة من ثمرات اختياره ورضاه، ولا يكون نظامها الا طوعيا يحفظ للفرد قدره ويرعى حرماته متميزا عن نظام الجماعات التي ينضم فيها الفرد قسرا وربما غلب من ثم على سائر امره في الحياة . ولا يعني بناؤها على المشيئة الحرة ان يستبد فيها الفرد بهواه ما شاء، فان حرية الانسان لا تقدر في الدين لذاتها لانها شرط اهلية لاحتمال قدره في الابتلاء وادراك غايته في الاهتداء الى ربه، وليس في وخي الكمال في ان يتسع الفرد في ممارسة حريته عدوانا على حريات الاخرين او تجاوزا لحدود طريقه الى الله، وانما يتوخى المؤمنون الكمال في تعاونهم على عبادة الله وتناصرهم لاعلاء كلمة الله"(8).
نحن هنا امام رأي لا يرى قيمة ذاتية للحرية، بل لانها شرط في الاختبار والابتلاء، وهذا الوصف يمكن سحبه على قيم اخرى، مثل الشورى والتعددية، فالشورى تكون ذات قيمة اذا حققت الوئام داخل المجموعة او المجتمع، والتعددية قيمة ليست لذاتها وانما بما تحققه من تأطير للاختلاف يدفع بالمجتمع نحو التكامل، ويسري هذا الكلام على بقية القيم، ولكن هذه الشرطية لا تسقط عن الحرية اصالتها وقيمتها الذاتية، كما لا تسقط عن الشورى وجوبها اذا لم تحقق النتيجة المطلوبة.