المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الانسان .. هل هو ضائع أم مضيع؟



النور الزينبي
07-03-2004, 07:45 PM
أعجبتني كثيراً محاضرة سمعتها مؤخراً قام بإلقائها الفاضل الشيخ محمد مهدي الآصفي -حفظه الله-، وكانت بعنوان ذكر الإنسان لله ، وذكر الإنسان لنفسه . والحق أن هذه المحاضرة كانت مثمرة بالنظر إلى أجزائها منفردة أو إليها كلها دفعة واحدة . إذ أوضح الشيخ - حفظه الله - معاني جميلة جداً لم أكن لأسمع بها لولا توفيق الله تعالى ؛ فماذا يعني ذكر الإنسان لله ؟ وماذا يعني ذكر الإنسان لنفسه ؟ وما هي العلاقة التي تربط بين هذين المعنيين ؟

يذكر الشيخ - حفظه الله - شرحاً مبسّطاً لهذه المعاني بأن ذِكْرَ الله هو الشعور بالله ، واستشعار وجوده سبحانه واستحضار ذلك ، واستشعار فضله سبحانه وكرمه وقوته وعظمته ، إذ أنّ الذكر ليس بقلقلة اللسان - انتهى - التي لا تحمل بعداً حقيقياً ينعكس داخل غمار النفس ، ولكن ولكي يكون الإنسان ذاكراً لله ، يجب أن يكون مستحضراً لتلك المعاني البعيدة .

وعن ذكر الإنسان لنفسه ، يوضح - حفظه الله - أن الإنسان يكون ذاكراً لنفسه بتعرّفه على نفسه والمواطن الإيجابية فيها ، وما أعطاه الله من كفاءات ، وميّزه به من مقدرات . والعلاقة بين الذكرين تبادلية كما يشير إليه حفظه الله ، فإذا عرف الإنسان نفسه صار في يده طريق معرفة الله ، وإذا عرف الإنسان الله ، صار في يده طريق معرفة نفسه . وقد أشار سماحته إلى أن ذكر الإنسان لنفسه ، يكون الوسيلة التي توصله إلى الله . فإذا ما أراد اللهُ عقاب الإنسان ، أنسى هذا الإنسان نفسه ، وبذلك ينقطع عليه طريق المعرفة .. يقول الله سبحانه : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون } (الحشر:19) .

وبهذا ومن هذه المقدمة البسيطة - والتي نرجع القارئ الكريم إلى ذات المحاضرة ليحصل على ما يروي ضماه بخصوص هذا الموضوع فيأخذ الماء من منبعه - يتضح لنا بأن الإنسان لا يكون ضائعاً أبداً إلا إذا ضَيَّع هو نفسه ، وضياعه لنفسه بنسيانه لربه ، ولذلك فالإنسان مُضَيِّعٌ ضَائِع .

أقول ، إن الإنسان يولد مجبراً لا مخيّراً ، فهو لا يأتي إلى الحياة باختياره أو بإرادته ، ثم إنه لا يعيش في طفولته ضمن أي أسرة باختياره ، فهو أضعف عن إدراك معنى الاختيار وخصوصاً في مثل ذلك الوقت . والناس في هذا شتّى ؛ فمنهم من يُولد في حضن طاهر يقوم برعايته ، ومنهم من يولد في بيئة فقيرة ليذوق الفقر المرّ ، في الوقت الذي يكون الطعام عند البعض زائداً عن الحاجة … وكل ذلك لم يكن باختيار الإنسان نفسه ، وإنما قَدَرُه الذي قدَّره الله إليه ، هو الذي أوجده في هذا البيئة أو تلك ، فماذا يعني ذلك ؟

إن الحديث في هذا الأمر واسع النطاق ولا يتسع له مقام هذه العجالة ، ولكن ..

نختصر الطريق بما أشار إليه الكثير من الباحثين في علم الأخلاق أو النفسيين أو الاجتماعيين ، بأن البيئة تخلق الاستعداد لدى الإنسان ، وتوجهه إلى طريق الحياة الذي يسلكه هو بنفسه ، ولكن بشكل اقتضائي لا حتمي ؛ فليس كل من وُلِد فقيراً ، مات فقيراً . وليس كل من ولد في بيئة ضلال استمر في ضلاله ، والعكس بالعكس فليس كل من ولد غنياً ، مات كذلك . وليس كل من ولد في بيئة صلاح ، استمرّ في صلاحه .

ثم ماذا تعني كل هذا الأمور ؟؟ إن الله الحكيم هو الذي يُقَدِّر أين نولد ، وأين نعيش ، وأين نموت. وقد قرر ذلك في كتابه المجيد : { وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرضٍ
تموت ، إن الله عليمٌ خبيرٌ } (لقمان:34) ، وقال سبحانه : { وقدر فيها أقواتها } (فصلت:10) ، وقال : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } (الملك:14) . نعم فهو الحكيم وهو الخبير ، وهو بحكمته - والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها - وضع الأساس الذي يكون عليه التمايز الحقيقي بين الناس .

ولم يكن هذا المقياس هو الغنى ، ولم يكن الفقر كذلك ، ولا حتى المركز الاجتماعي المرموق ، ولا.. ولا… إذاً فما هو ؟!! فإذا كان الإنسان مجبراً على أن يُولد فقيراً ، أو أن يعيش غنياً ، فما هو وجه التمايز بين ذا أو ذاك ؟!!

والجواب على هذا ليس ببعيد ، وهو أوضح من الشمس في رابعة النهار ، إذ أشار إليه سبحانه في كتابه المجيد بقوله : { ولباس التقوى ذلك خيرٌ } (الأعراف:26) ، وقال عز وجل : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (الحجرات:13) ، أي أن الأتقى هو الأكرم ، وما أعظمه من أساس للقياس والتمايز.. ولكن يظل السؤال في أنه كيف يمكن الوصول إلى التقوى التي يريدها الله من الناس ؟!

إن الله لم يتركنا هكذا وبدون إرشاد ‍‍‍‍‍. إذ أنه سبحانه ضمن التعريف بالطريق وقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ؛ مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا ، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه ، متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريبٌ } (البقرة:214) ويقول أيضاً: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ويعلم الصابرين } (آل عمران:142) ويقول أيضاً في نفس الموضوع : { أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً ، والله خبيرٌ بما تعملون } (التوبة:16) .

إذاً ، فالطريق واضح ، ولكنه ليس سهلاً . والصعوبة لا تكمن في معرفته ، وإنما تكمن في انتهاجه، فالاختبار صعب شاق كما يوضح سبحانه في الآيات السابقة ، ولكنه سبحانه يؤكد في مورد آخر على أن الذين يخوضون هذا الاختبار بإخلاص حقيقي لله ، فهو يضمن لهم التعريف بالطريق القويم ، وذلك في قوله سبحانه : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنَا } (العنكبوت:69) ، وأي هداية تكون بعظمة هداية الله التي يشير إليها سبحانه في موطن آخر بقوله : { الله ولي الذين آمنوا ؛ يخرجهم من الظلمات إلى النور } (البقرة:275) ، نور معرفته وحبِّه ، ونور معرفة أوليائه محمد وآله الطاهرين .